رؤى

تطور الجهادية السلفية في شرق أفريقيا.. بن لادن في الخرطوم (١) 

عرض وترجمة: أحمد بركات

تقديم

اختار “أصوات أونلاين” هذه السلسة من المقالات لترجمتها ونشرها بالعربية لما تقدمه من دلالات يمكن تعميمها فيما يخص الأسباب التي تساهم في نشوء وتمدد العديد من الجماعات الإرهابية التي توظف راية الإسلام لمصالحها السياسية. 

من أبرز هذه الأسباب  استغلال الأواصر العائلية والقبلية والتنسيق معها من أجل مصالح مشتركة من ناحية واستغلال مناخ الصراعات بين القبائل وبعضها لصالح تلك الجماعات الإرهابية من ناحية أخرى. 

أما السبب الأساسي الثاني فيتمثل في استغلال التدخلات العسكرية الأمريكية والأوربية أو كما سبق أن أطلق عليها ابن لادن “جيوش الكفار” – وليس جيوش الاحتلال – بهدف تحويل الصراع من صراع وطني إلى صراع ديني …

أصوات   

في الساعات الأولى من يوم 5 يناير 2020، تسلل ما يقرب من عشرة مسلحين من “حركة الشباب” الصومالية، وهي جماعة جهادية موالية لتنظيم القاعدة في شرق أفريقيا، إلى داخل مطار أمريكي سري في قلب غابات المانجروف في شرق كينيا.

استمر تبادل إطلاق النار داخل القاعدة في خليج ماندا لعدة ساعات، مما أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين وتدمير طائرة استطلاع أمريكية، ويمثل هذا الهجوم تحولا مهما في جهود الحركة طويلة الأمد لطرد ما يسمونه “بجيوش الكافرين” من شرق أفريقيا وبناء دولة إسلامية على أنقاضها.

القاعدة الأمريكية في خليج ماندا
القاعدة الأمريكية في خليج ماندا

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تهاجم فيها “حركة الشباب” كينيا، فقد حدث ذلك من قبل عدة مرات، حيث تمكنت من قتل جنديين أمريكيين في معارك منفصلة في الصومال، لكن الحركة لم يسبق لها أن نجحت قبل ذلك في اختراق منشأة عسكرية أمريكية.

أكد هجوم يناير 2020 أيضا السهولة التي تعمل بها الحركة عبر الحدود إلى داخل كينيا.

ورغم أن كينيا تمثل شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة، ويُنظر إليها في الغرب عامة كإحدى الدول الأفريقية الأكثر استقرارا ورخاء، ورغم سنوات طويلة من جهود مكافحة الإرهاب ومئات الملايين من الدولارات التي قدمتها الولايات المتحدة كمساعدات أمنية، إلا أنها تبقى معرضة لخطر الإرهاب بشكل دائم.

كان قلق المسئولين الأمنيين الأمريكيين قد تزايد بالفعل إزاء التطورات الهائلة في قدرات حركة “حركة الشباب” قبل الهجوم.

وفي مارس 2020، كشف بعض المسئولين لصحيفة “نيويورك تايمز” أن عناصر من الحركة حاولت حضور دروس في الطيران في العام الماضي، وسعت للحصول على صواريخ مضادة للطائرات تطلق من الكتف.

وفي أعقاب محاولة فاشلة لضرب قاعدة أمريكية في الصومال في أكتوبر 2019 تلقت “الشباب” إشادة بالغة من قبل كل من تنظيم القاعدة المركزي وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وتعهد لاحقا أمير الجماعة، أحمد عمر، الملقب بأبي عبيدة، بشن مزيد من الهجمات ضد الأمريكيين، وهو ما أثار بعض القلق أيضا، فالرأي القائل بأن حركة الشباب تشكل خطراً فريداً من نوعه بين سائر الجماعات السلفية الجهادية في أفريقيا قد سمعه كاتب هذه السطور في أكثر من مناسبة من مسئولين في وزارة الدفاع الأمريكية، وانعكس هذا الرأي بجلاء في كم الضربات الجوية الهائل الذي نفذته الولايات المتحدة في الصومال في السنوات الأخيرة.

أحمد عمر، الملقب بأبي عبيدة أمير جماعة الشباب الصومالية
أحمد عمر، الملقب بأبي عبيدة أمير جماعة الشباب الصومالية

وإزاء ذلك، لا يسعنا سوى التفكير فيما إذا كانت حركة الشباب ستقدم على توجيه ضربة قادمة ضد المصالح الأمريكية أم لا، وكيف ستكون هذه الضربة، وهل يفترض أن تكون في شرق أفريقيا، أم يحتمل أن تذهب إلى مناطق أبعد.

لكن المؤكد هو أن الحركة ستزداد قوة على قوتها في السنوات القادمة إذا استمرت الأوضاع الحالية على ما هي عليه، ففي داخل الصومال، تنشب الحركة في حالة جمود دموية ضد قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي والقوات الصومالية. ولكن هذه الحالة سوف تتغير لصالح الحركة وسط توقعات بانسحاب قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي بحلول ديسمبر 2021، تاركة مهمة حفظ الأمن في يد دولة صومالية غير فعالة. في الوقت نفسه، فإن الأوضاع في الدول الشرق أفريقية المجاورة للصومال مهيأة تماما للحركة ولمنافسها الأصغر، تنظيم الدولة الإسلامية في الصومال، للتمدد ونشر النفوذ.

على سبيل المثال، تواجه أثيوبيا، التي يزيد عدد سكانها من المسلمين عن 30 مليون نسمة، حالة من عدم الاستقرار قد تمثل عاملاً مساعداً لتمدد حركة الشباب أو تنظيم الدولة الإسلامية. وفي كينيا، شرعت الحركة فعليا في توسيع شبكة التجنيد التابعة لها بوسائل وأساليب مبتكرة، وذلك من خلال استهداف المناطق والجماعات العرقية خارج الشبكات الإسلاموية التقليدية، وتجنيد الشباب من المجتمعات ذات الأغلبية المسيحية.

وتثير هذه التوجهات القلق في ذاتها، خاصة في ضوء إمكانية تفاقم حالة عدم الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، كما تقدم في الوقت نفسه دروساً مهمة للمعنيين بمكافحة الإرهاب بوجه عام حول مرونة جماعات السلفية الجهادية وقدرتها على التكيف.

 لهذه الأسباب على وجه الدقة تبرز أهمية الدراسة التحليلية لتاريخ وصول هذه الجماعات إلى شرق أفريقيا منذ عقود، واتخاذها معاقل لها، وتطورها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

كانت السودان في تسعينيات القرن الماضي بؤرة لنوع جديد من الإسلاموية الإحيائية في شرق أفريقيا. فكما هو الحال في الشرق الأوسط، سيطرت الأيديولوجيات اليسارية والقومية على النخب المسلمة في شرق أفريقيا في بدايات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أما في السودان فقد خضعت السياسات الإسلاموية لسيطرة فرق صوفية‘ إلا أن هذا الوضع جرت عليه سُنة التغيير في عام 1989، عندما استولى العقيد عمر البشير على السلطة في السودان بدعم من الجبهة الإسلامية القومية (NIF) بقيادة عمر الترابي.

عمر البشير وعمر الترابي
عمر البشير وعمر الترابي

ساعدت الجبهة البشير على إعادة تشكيل صورة السودان كمجتمع إسلاموي أكثر تشددا، وإقرار دستور تأثر بكتابات وأعمال إحيائيين إسلامويين من أمثال أبي الأعلى المودودي وسيد قطب.

 وفي بداية التسعينيات، أضفى العلماء الموالون للبشير على جهود مكافحة التمرد في جنوب السودان طابع الجهاد المقدس.

بعد ذلك، جاء القرار الأكثر حسما للترابي، وهو دعوة المعارضين والمتشددين الإسلامويين من جميع أنحاء العالم إلى السودان، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، الذي استقر به المقام في الخرطوم في عام 1992 بعد إعلانه شخصا غير مرغوب فيه في المملكة العربية السعودية. وباعتباره نجلاً لأحد أقطاب صناعة البناء والمقاولات، ساعد ابن لادن في تمويل وتنظيم العديد من مشروعات البنية التحية في السودان ليضع نفسه مع نظام البشير في إطار واحد. لكن الحكومة السودانية رضخت في النهاية للضغوط الأمريكية والسعودية، وعلى مضض قامت بطرد ابن لادن في عام 1996، برغم إصرارها على أنه لم يكن أكثر من رجل أعمال سعوي.

أسامة بن لادن في السودان
أسامة بن لادن في السودان

في واقع الأمر، مثلت حقبة السودان سنوات تكوينية لتنظيم القاعدة، ففي هذه الفترة أنشأ تنظيم ابن لادن معسكراته في السودان وعكف على وضع أسس هجومه الأول الكبير ضد المصالح الأمريكية، والذي تمثل في تفجير سفاراتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، والذي أسفر عن مقتل 224 شخصا، معظمهم من الكينيين.

نفذت خلايا ابن لادن في شرق أفريقيا، والتي تعرف باسم تنظيم القاعدة في شرق أفريقيا (AQEA)، هذه الهجمات بدعم من عناصر القاعدة في الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا. وفي عام 2002، ضربت القاعدة مرة أخرى في كينيا، وعلى وجه الدقة في ميناء ومدينة مومباسا. كما أشرف صالح علي صالح نبهان على هجومين في 28 نوفمبر من العام نفسه، وهما تفجير منتجع مملوك لإسرائيل، ومحاولة فاشلة لإسقاط طائرة إسرائيلية مستأجرة بصاروخ محمول يدويا. وفي أعقاب هذه الهجمات، فر نبهان من كينيا إلى الصومال، باعتبارها الملاذ الآمن لعناصر القاعدة في شرق أفريقيا، والأرض التي تمنت قيادة القاعدة ذات يوم أن تصبح نقطة انطلاق لمشروعها العالمي.

(يُتبع)

جيمس بارنيت – باحث وكاتب مستقل ومحرر في مجلة The American Interest

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock