رؤى

المفاهيم المؤسسة للإسلام السياسي المتطرف: الهجرة.. الخلاص من «المجتمع الجاهلي» (4)

تختلف الحركات والتنظيمات والجماعات المتطرفة والتكفيرية في إيمانها بفكرة الهجرة لإقامة ما يسمى “الوطن البديل” الذي يَجُبُ لديها “الدولة الوطنية” بمفهومها العصري، ويأخذها إلى اتساع وهمي، نحو صيغة “إمبراطورية”، مثلما كان قائما في القرون الوسطى، أو يضيقها إلى حد الإقليم أو المنطقة المقتطعة من دولة ما، والتي يمكن لهذا التنظيم أن يقيم عليها إمارته، ويطبق بين سكانها رؤيته، ويتخذه نواة فيما بعد لما يسميه “الجهاد” ضد الآخرين.

تعني الهجرة ترك المجتمع وبناء نواة اجتماعية مختلفة، بدعوى أنه “مجتمع جاهلي”، تحكمه سلطة كفرية، تطبق قوانين وضعية، ولذا لا يجب على أتباع الجماعة، الذين يتوهمون أنهم المؤمنون، أن يمكثوا فيه، ويعايشوا أهله الذين يرونهم كفارا، إنما وجب عليهم أن يرحلوا عنه، ليقيموا هم مجتمعهم الخاص الذي يتماشى مع الأفكار التي يعتقدون فيها.

والمثل الصارخ على هذا هو ما سمت نفسها “جماعة المسلمين”، وسماها الناس “التكفير والهجرة” والتي طفت على السطح في مصر خلال سبعينيات القرن العشرين، حيث تمكن مؤسسها شكري مصطفى من إقناع أصحابه بالنزوح إلى حي طرفي في القاهرة وهو عزبة النخل، الذي كان أيامها بعيدا وجديدا، كي يقيموا دولتهم، وظلوا هناك إلى أن اكتشف أمرهم وقبض عليهم بعد اختطافهم وقتلهم وزير الأوقاف الشيخ الذهبي، فانتهى التنظيم.

وقد تؤدي الهجرة إلى حدوث  “الاقتطاع، أي نزع جزء من جسد دولة أو من مدينة من المدن، لإقامة “وطن بديل” أو “مجتمع بديل”، يتم فيه تطبيق أفكار الجماعة المتطرفة، بعد أن تمتلك وسائل للسيطرة والتحكم داخل المجتمع، إما بإقناع عدد كبير من سكانه بالفكرة المتشددة، وتوظيفهم في السيطرة على الباقين، أو باستغلال التهميش الاجتماعي وغياب سلطة الدولة على حي أو إقليم وملء هذا الفراغ، والتغلب بالقوة القاهرة على السكان، وإخضاعهم لتصورات الجماعة أو التنظيم.

وهناك أمثلة كثيرة في هذا الشأن، منها ما يخص اقتطاع إقليم من الدولة، مثلما جرى في مالي والصومال والعراق، ومنها ما يخص السيطرة على حي من أحياء مدينة كبرى، حسبما جرى في القاهرة في أوائل تسعينيات القرن الماضي حين قامت ما تسمى “الجماعة الإسلامية” بالسيطرة على حي إمبابة، وأعلنت أنه بات “دولة داخل الدولة” مما دفع السلطة إلى حشد عشرين ألف جندي من قوات الداخلية لإزالة هذه الدولة المزعومة.

مصطفى شكري
مصطفى شكري

وعند الإخوان تكون الهجرة أحيانا بالانفصال أو العزلة الشعورية عن سائر المجتمع، أو تكوين ما يسمى “دولة الفكرة”، حسبما ينظر لها العضو في جماعة الإخوان محمد فتحي عثمان، الذي يرى أن هذه الدولة هي حلم البشرية، وهي دولة لا تقوم على حتمية ظروف الأرض أو الدم، ولكنها تقوم في نظره على “اختيار” الإنسان، بوعيه الكامل وإرادته الحرة، وعلى أساس أن كل أرض سواء، وكل سلالة سواء. تستند  هذه الرؤية زورا إلى الدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ويرى أنها كانت “تجربة حية مبكرة للدولة الإيديولوجية في التاريخ! وأنها لم تكن دولة مكة أو قريش ولا دولة المدينة أو الأوس والخزرج، بل كانت دولة الإسلام، المعروض على عقل إنسان، دولة التقى فيها المهاجرون والأنصار، مع صهيب الرومي وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي. فكانوا جيعاً أعضاء مؤسسين ومواطنين أصلاء في هذا المجتمع وهذه الدولة”.

وفضلا عن أن ما كان أيامها لم يكن “دولة” بالمعنى الحديث، فإن وجود الرسول فيها أساسي، حين كان الوحي ينزل وكان هو يقضي ويعلم ويوصي، وهو ما لا يتوفر الآن، لكن أتباع التنظيمات المتطرفة يريدون، دون أن يعلن بعضهم ذلك صراحة أو يجهروا به، أن تحل الجماعة أو التنظيم أو بعض قادته وأمرائه محل الرسول في فرض التعاليم وتحديد مسار الدين، مع أن ما يقولونه يخرج في كثير من الأحيان تماما عن الإسلام.

وقد تؤدي الهجرة والاقتطاع معا إلى قيام شكل اجتماعي بشع، كما تظهر فيما يسمى “إدارة التوحش” عند داعش، التي تعد الطور الأكثر بشاعة في تطور الجماعات التكفيرية على طريق العنف، وهناك كتاب بهذا العنوان يوضح هذه الفكرة الجهنمية ويفصل فيها، وقد قصد مؤلفه، واسمه الحركي أبو بكر ناجي بـ”التوحش” حالة الفوضى العارمة التي تعم وتطم في إقليم أو دولة ما، نظرا لانفضاض قبضة السلطة الحاكمة عنها، بما يخلق معاناة شديدة للسكان، وعلى تنظيم داعش الذي يحل محل هذه السلطة المنهارة الغائبة أن يمتلك كفاءة في إدارة المكان والسكان إلى أن تستقر الأمور لصالحه، فيقيم إمارة إسلامية، تطبق الشريعة، وفق التصور الذي يؤمن به التنظيم.

عنف وتوحش داعش
 داعش

وبالطبع فإن فكرة “إدارة التوحش” تلك مرت بأطوار ومراحل متعاقبة، ودمجت بعض جوانبها، وليست كلها، في تصورات تبنتها تنظيمات وجماعات دينية مسيسة، أو تروم تحصيل السلطة، قد نبعت في أساسها من فكرة “الهجرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock