رؤى

لماذا تزدهر الديمقراطية في مجتمعات دون أخرى؟

لمعرفة أسباب ازدهار الديمقراطية الأولى في المجتمعات التي ازدهرت فيها، يبحث ديفيد ستاسافيج أدلة من علوم الأركيولوجيا والتربة والديموغرافيا والمناخ، ويخلص إلى أنها “مسألة تاريخ وحظ جيد”.

ففي كتابه The Decline and Rise of Democracy: A Global History from Antiquity to Today “سقوط وصعود الديمقراطية: تاريخ العالم من العصور القديمة حتى اليوم” (2020)، يشير ستاسافيج، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيويورك، إلى معتقدين مركزيين شاعا عبر التاريخ فيما يتعلق بنشأة الديمقراطية وانتشارها، وهما أنها بدأت في أثينا القديمة، وأنها مع انطلاقها من هذه المحطة التاريخية، ظلت محصورة في الجزء الغربي فقط من العالم دون غيره. لكن ستاسافيج، يعتقد أن كلا المعتقدين خاطئ وفي غير محله، وأنه بدونهما ستتغير نظرتنا إلى الديمقراطية في العصر الحاضر، وستتبدل الآمال والمخاوف على حد سواء بشأن الآفاق والتوازنات الخاصة بها نحو الأفضل.

غلاف كتاب سقوط وصعود الديمقراطية: تاريخ العالم من العصور القديمة حتى اليوم
غلاف كتاب سقوط وصعود الديمقراطية: تاريخ العالم من العصور القديمة حتى اليوم

ويبين ستاسافيج، في الكتاب الصادرعن جامعة برينستون، أن الديمقراطية، باعتبارها نظام حكم يقوم على التشاور والتوافق، لم تكن قاصرة على اليونان الكلاسيكية، بل وُجدت في العديد من الحضارات الأولى، بما في ذلك بلاد ما بين النهرين، والهند البوذية، والأراضي القبلية في منطقة البحيرات العظمى الأمريكية، وأمريكا الوسطى في حقبة ما قبل الغزو، وأفريقيا ما قبل الحقبة الكولونيالية. ومع أخذ هذا الانتشار في الاعتبار، فإن “الحكم الديمقراطي … يأتي إلى البشر بصورة طبيعية”. لكن ما يثير الحيرة هو أن الحكم الأوتوقراطي الاستبدادي يأتي أيضا بنفس القدر من الطبيعية، كما أنه كان موجودا في أماكن مختلفة. ففي الصين ما قبل الحداثة والعالم الإسلامي كان الحكم الأوتوقراطي – إلى جانب البيروقراطية المركزية – المعيار الأوحد على مدى قرون من الزمان.

ولمعرفة أسباب ازدهار الديمقراطية الأولى في المجتمعات التي ازدهرت فيها، يبحث ديفيد ستاسافيج في كتابه، الذي يقع في424 صفحة من قطع الوسط، العديد من الأدلة من علوم الأركيولوجيا والتربة والديموغرافيا والمناخ. يكمن السبب الأساسي – بحسب ستاسافيج – في المعلومات. فقد انتعشت الديمقراطيات الأولى في الأماكن التي لم يكن حكامها على دراية كافية بما يزرعه المحكومون، ولا تتوافر لهم سبل معرفة ذلك. ومن ثم فقد كانوا يبخسون تقدير كمية المحاصيل الخاضعة للضريبة، بما يعني تبديد الإيرادات، أو يفرطون في تقدير هذه الكمية، بما يعني دفع دافعي الضرائب إلى عدم الامتثال. ومن ثم فقد لجأ هؤلاء الحكام إلى سؤال الناس عن حجم انتاجهم، وفي المقابل الاستماع إلى مطالبهم. وكان هذا النمط تقليديا في المجتمعات التي كان عدد السكان فيها محدودا، وكانت الدولة المركزية ضعيفة أو غير موجودة على الإطلاق.

أما في المجتمعات التي تتسم بأعداد سكانية كبيرة، فقد كان التشاور سياسة غير عملية، ومن ثم فقد أرسل الحكام مسئولين لمعرفة حجم المنتج الزراعي، وأعداد الشباب التي يمكن ضمها إلى الجيوش. في غضون ذلك برزت البيروقراطيات، وبفضلها فرض الحكم الأوتوقراطي المطلق نفسه على العادات المحلية. وفي بيئات ما قبل الحداثة كانت هذه البيروقراطية الاستبدادية أكثر شيوعا في الأماكن التي كانت تتمتع بتربة زراعية خصبة وإنتاج زراعي وفير ومعرفة متقدمة، خاصة في مجالي الكتابة والقياس. وكانت الأنظمة في هذه المناطق قادرة على فرض ضرائب باهظة. واستطاعت كل من الصين في ظل حكم سلالة سونغ (من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر) والدولة العباسية (من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر) في أوجهما جمع 10% و7% على التوالي من إجمالي الناتج السنوي. بينما نجح الحكام الأوربيون في العصور الوسطى من جمع 1% فقط بالكاد.

الصين في عهد سلالة سونغ
الصين في عهد سلالة سونغ

وبمجرد تأسيسها، كانت عملية تفكيك البيروقراطيات المركزية غاية في الصعوبة، حيث استفادت هذه البيروقراطيات بقوة من الحداثة والتكنولوجيا الجديدة. وعلى النقيض من ذلك، كانت الديمقراطيات الأولى أكثر تأثرا بقيام الدولة الحديثة والتنمية الاقصادية المتسارعة. ومن ثم فقد اختفت هذه الديمقراطيات في أماكن كثيرة، بينما بقيت في أماكن أخرى.

وبعبارة أخرى، سمحت الحداثة والدولة المركزية بكل من الاستبداد والديمقراطية على حد سواء. لكن.. هل كان هناك نمط ثابت يمكن القياس عليه؟. يعتقد ستاسافيج ذلك، وهو ما يطلق عليه “التسلسل”؛ “فإذا تم إنشاء مؤسسات الحكم التوافقي في الديمقراطيات الأولى أولا، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تطوير بيروقراطية دون انحراف حتمي إلى الأوتوقراطية أو الاستبداد”، كما كتب ستاسافيج. فالأمر إذن يعتمد على ما جاء أولا.

رغم ذلك، يظل الغرب هو البقعة الوحيدة في العالم التي تطورت فيها الديمقراطية المبكرة المباشرة ضيقة النطاق بشكل أكثر أمانا إلى الديمقراطية التمثيلية الحديثة. ألا يجعل هذا من الديمقراطية نظاما غربيا خالصا في نهاية المطاف؟ في الموجات الثلاثة للديمقراطية الحديثة (في القرن التاسع عشر، وبعد عام 1945، وبعد عام 1989) جاءت الديمقراطية الغربية أولا. وبرغم الانهيارات الصارخة، إلا أنها كانت الأفضل أداء على الإطلاق. لكن – بحسب رواية ستاسافيج – لم يكن هناك رباط جوهري بين الغرب والديمقرطية الحديثة سوى حظ الماضي.

إعلان الاستقلال الأمريكي
إعلان الاستقلال الأمريكي

كان لأوربا الحديثة – مع وجود استثناءات قليلة – عادات ديمقراطية وحكام ضعفاء، دون أن يكون هناك بيروقراطيات فعالة. وحيثما حل الحكم التوافقي، ولم يتم القضاء عليه من قبل الحكم المطلق، فقد ترك “آثارا عميقة للغاية”، كما كتب ستاسافيج. وكان لكل من الديمقراطية والحكم المطلق جذورا قوية. كما كانت هناك أسباب وجيهة لتوقع استمرار كل منهما.

قد يبدو هذا الاستنتاج ضئيلا للغاية وغير ملائم على الإطلاق لعمل فكري كهذا الكتاب. لكن هذه الضآلة ربما تمثل إحدى فضائل هذا الكتاب. فهو يبحث في السياسة من وجهة نظر اقتصادية باعتبارها مساومة افتراضية بين الحكام والمحكومين، مستبعدا ما كان شائعا، ومتجنبا التحليلات المسهبة للأفكار الرئيسية. كما تتسم دروسه الأكثر عمقا بالسلبية؛ فهو يبين حجم التعقيدات التي تتسم بها أنماط الديمقراطية، ويقدم الأدلة حول طرق تعثر الروايات الأكثر بساطة عن ماضي الديمقراطية وآفاقها.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock