فن

السياسة فى السينما.. كثير من المباشرة قليل من الإبداع

السينما تلك الساحرة التي ساهمت فى تشكيل الوعي البشري منذ نشأتها، أبهرت العالم بسحرها وتفاعلها مع الحياة وكونت عوالم تحاكي الواقع أو تتجاوزه أحيانا.

صاغت بمفردات فنيه مبهرة حياة الناس وأحلامهم وعبرت عن مشاعرهم، وتعددت اهتمامات الفن السابع وتباينت مدارسه الفنية والفكرية، وتبقى علاقة السينما بالسياسة رغم قوتها وحضورها دائما علاقة مركبة خاصة مع غياب تعريف واضح وحاسم لما يمكن تسميته بالسينما السياسية، فبعض صناع ونقاد السينما يرون أن السياسة هى كل شىء يمس حياة الإنسان وكل تفاصيل حياته، ومن ثم فإن السينما دائما تتعاطى مع السياسة حتى دون قصد أو بشكل غير مباشر بينما يحدد البعض الآخر مواصفات للفيلم السياسي بمجموعة محددات ومن بين هؤلاء الناقد الكبير محمود قاسم فى كتابه “الفيلم السياسي فى مصر” الذى صدر عام 2012 ويحاول صياغة تعريف لهذا النوع من الأفلام قائلا “فيلم يصوِّر الواقع السياسي الحالي لزمن إنتــــاج الفيلم، كمـــا أنه يمكن أن يعرض سيرة بطل مـــن أبطال السياسة الحالية الذين يلعبون دورا في السياسة إبان إنتـــاج الفيلم، وقد يكـــون موضوع الفيلـــم مأخوذا عن واقـــع الحيــــاة، أو مؤلفـــا من وحي الخيال”

الفيلم السياسي في السينما المصرية
الفيلم السياسي في السينما المصرية

ورغم اختلاف التعريفات والرؤى حول الفيلم السياسي فإن السينما المصرية قد عرفت تلك النوعية من الأعمال التى تناولت قضايا سياسية مباشرة أو سير ذاتية لشخصيات سياسية سواء كانت من التاريخ القديم أو المعاصر، وبالرغم من أن معظمها كان يتسم بالتوجيه والمباشرة بينما امتلك القليل منها أدوات فنية وابتعد عن المبالغة سواء بالإحتفاء أو التنكيل بالشخصية السياسية أو الحدث التاريخى،ويؤكد النقاد أن السينما المصرية قدمت على مدار تاريخها ما يقرب من 100 فيلم يمكن تصنيفها كأفلام سياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

مراحل وتناقضات

ومر الفيلم “السياسي” عبر تاريخ السينما بثلاث مراحل رئيسية تباينت المعالجات والاهتمامات خلالها ولكن المشترك بينهم هو تأثر بالغ بالنظام السياسى الرسمي وتوجهاته وانحيازاته وكذلك رؤيه صناع الفيلم ذاتها والتى غالبا ما تخلو من الموضوعية والتجرد تبدأ المرحله الأولى مع بداية صناعة السينما فى مصر.

ولم يكن الفيلم السياسى حاضرا فى تلك المرحلة إلا قليلا حيث شهدت فيلم “لاشين” لمخرج ألماني الأصل هو “فيرتز كرامب ” وتم عرضه في 1938 أول فيلم سينمائي مصنف كفيلم سياسي،تدور أحداث الفيلم حول لاشين (حسن عزت) الذي يشغل منصب قائد الجيش، وهو يتميز بالعدل والحسم، ويقف على النقيض التام من رئيس الوزراء الذي يتربح من موقعه على حساب الشعب، ويحاول (لاشين) أن ينبه الحاكم لما يفعله رئيس الوزراء، فيتم تلفيق تهمة لـ(لاشين)، ويتم إيداعه في السجن، ولكن لا يدرك رئيس الوزراء أنه بفعلته هذه يساهم في زيادة الغضب الشعبي ورفض الحكومة المصرية عرضه وأجبروا صناعه على تغيير نهايته بعد الموافقة على عرضه، ورغم الصبغة التاريخية التي تحكم تفاصيل الفيلم، إلا أن أحداث الفيلم نفسها حملت إسقاطًا على أوضاع سياسية في الحقبة الزمنية التي قدم فيها.

ولن تجد أفلاما يمكن تصنيفها كسياسية قبل ثورة يوليو ومعظم الأفلام التي قدمت خلال هذه المرحلة كانت تدعم الملك فاروق بشكل كبير من خلال إظهار صوره وإلقاء الضوء عليه في بعض المشاهد والأغنيات ومحاولة إظهاره راعي الفن، من هذه الأفلام”غرام وانتقام” الذي قدم خلاله أوبريت أمجاد أسرة فاروق بالكامل بداية من إسماعيل وفؤاد “ليلي بنت الفقراء” و”قلبي دليلي” و”الماضي المجهول “.

من يوليو إلى مبارك

وفى مرحلة ما بعد يوليو اتجهت السينما بشكل أكبر نحو تقديم أعمال ذات طابع سياسى واتسمت فى بدايتها بقدر كبير من المباشرة، وقدم عدد من الأفلام حول الثورة وتناولت أعمالا عديدة في مرحلة ما قبل الثورة، وركزت على فساد السلطة وممارسات النظام الملكي فى محاولة للنيل من تلك المرحلة ورموزها ودعم الثورة وصناعها، وكانت البداية عام 1955 من خلال فيلم “قصة حبي” لهنري بركات، والذي سعى فريد الأطرش من خلاله لترويج فكرة أن فاروق خطف حبيبته وهي قصة حقيقية عندما تزوج من ناريمان التي كانت تجمعها قصة حب بفريد الأطرش.

وفى تلك المرحلة كان للقضيه الفلسطينية وقضايا التحرر الوطنى فى بلدان عربية أخرى حضورا كبيرا وتناولت أيضا فى عدد من الأعمال قضية الأسلحة الفاسدة ومن الأفلام التى قدمت في هذا السياق “الإيمان” عام 1952 و”الله معنا” و”نهر الحب” و”الحياة الحب” عام 1954، و”رد قلبي” و”الأقدار الدامية” و”أرض الأبطال” و”أنا حرة” و”وداع فى الفجر” و”أرض السلام” خلال أعوام 1956 وحتى 1969، كما قدمت السينما عام 1966 فيلم “من أحب” وهو فيلم سياسي يعيد إلى الأذهان قضية الأسلحة الفاسدة حرب فلسطين، كما قدمت فيلم “طريق الأبطال” عام 1961، وفي نفس العام تم تقديم فيلم “صراع الجبابرة “، ورغم اهتمام ودعم الدولة الكبير لصناعة السينما وسعى القيادة فى تلك المرحلة إلى استثمار تأثير السينما فى صياغة وصناعة الوعى رغم ذلك ظهرت بعض الأعمال التى تحمل انتقاد واضح لنظام “ناصر” ومن أهم تلك الأعمال كان فيلم “ميرامار” الذي عرض عام 1968 وحمل نقدا واضحا ومباشرا للتجربة الناصرية، وتطرق لبعض الأخطاء والتجاوزات من رجال الثورة وعرض الفيلم بدون حذف أو تدخل رقابي،

وكان آخر الأعمال التي نذكرها هنا فيلم “غروب وشروق” الذي عرض عام 1970 أي قبل وفاة عبدالناصر ببضعة أشهر .

رحل “ناصر ” وتولى “أنور السادات ” لتبدأ مرحلة جديدة فى مسيرة الفيلم السياسى بل فى مسيرة السينما المصريه حيث تراجع بشكل ملحوظ دعم الدولة لتلك الصناعة وفى تلك المرحلة ظهر اتجاه جديد فى السينما وهو النقد المباشر لما جرى خلال حكم عبدالناصر، بل ووصلت الأمور إلى تقديم أفلام عديدة تعمل على تشويه المرحلة برمتها، وركزت الأفلام السياسية على الاعتقالات والفساد والهزيمة وغيرها من الأمور السلبية، ومن أبرز هذه الأفلام “الكرنك” و”إحنا بتوع الأتوبيس” و”وراء الشمس” وأسياد وعبيد” و”شاهد إثبات”، وجميعها أفلام سياسية ساهمت في تشويه صورة نظام عبدالناصر، دون أى اعتراض من القيادة حينذاك، وبدى الأمر كأن هناك توجيها رسميا لإنتاج تلك الأعمال أو على الأقل رضا من جانب السلطة لتقديمها، واستغلها الرئيس الراحل أنور السادات ليظهر أمام المجتمع راعيا للحريات ورافضا لما كان يجري قبل توليه الحكم، ومحاولة الترويج على أن النظام الجديد جاء بأفكار جديدة تختلف عمن سبقوه واستغل السينما في الترويج لذلك من خلال عدة أفلام أبرزها “حتى لا يطير الدخان”.

https://www.youtube.com/watch?v=t5Tvqt73dF8

مع رحيل “انور السادات “1981 وتولى حسنى مبارك “حكم مصر استمرت نفس المرحلة بعدة خصائص جديدة يمثل استمرارا فى خصومة السينما لثورة يوليو، مع محاولة واضحة لإنصاف فاروق وعصره، والترويج لأفكار مثل أن الثورة ورجالها ظلموا البشاوات وشوهوا فاروق عن عمد، ومن أبرز الأفلام السياسية التي قدمت في تلك المرحلة “قانون إيكا” و”إعدام قاضي” و”ليل وقضبان ثم فى نهاية الثمانينات قدمت السينما أفلام “ملف سامية شعراوي” و”الشطار” في بداية التسعينات، وفى محاولة لمواجهة تلك الهجمة العنيفة على المرحلة الناصرية وزعيمها قدم المخرج محمد فاضل في 1996 فيلم “ناصر 56” الذى كتبه محفوظ عبد الرحمن وأنتجه التلفزيون المصرى وحقق نجاحا جماهيريا واسعا فى دور السينما، رغم أنه كان عملا تلفزيونيا تم صنعه لعرضه على شاشات التلفزيون وكانت تلك تجربة ملهمة تكررت فيما بعد حيث تم عرض عدد من الأفلام التلفزيونية فى قاعات السينما.

وفى بدايه الألفيه وتحديدا عام “2001 “قدم المخرج محمد خان فيلم “أيام السادات ” الذى كتبه ” أحمد بهجت ” ويجسد شخصية الرئيس أنور السادات.

حرفية الفيلم السياسى

وقد شهدت فترة حكم مبارك الممتدة 30 عاما كاملة عددا كبيرا من الأفلام ذات الطابع السياسى كما شهدت انفتاحا لا ينكر فى الأفكار ومساحة لا بأس بها من الحرية وتدخل أقل من جانب الرقابة على الأعمال الفنية، وتميزت بنضج واضح من جانب صناع السينما فى تقديم فيلم سياسى بأدوات فنيه أكثر حرفيه وإبداع،،ومن تلك الأعمال “التحويلة” و”اللعب مع الكبار”و” الراقصه والسياسى ” و”طيور الظلام” و”الواد محروس بتاع الوزير” و”بخيت وعديلة” بأجزائه المختلفة، و”هدى ومعالي الوزير” و”على من نطلق الرصاص” و”عمارة يعقوبيان” “أصحاب ولا بزنس ” و”هي فوضى ” إضافة إلى عشرات الأعمال التى تقترب من السياسة من خلال رؤى اجتماعية واقتصادية، وتشتبك مع قضايا محددة تتماس بشكل كبير مع السياسة.

وبعد رحيل مبارك قدمت السينما عددا محدودا من الأفلام التى تناولت أحداث ثورة يناير وما بعدها مثل “اشتباك” و”الميدان” و”الشتا اللي فات” و”فرض وغطا” و”نوارة” و”بعد الموقعة”، إضافة إلى الفيلم الممنوع من العرض “18 يوم” وجميعها لم تحقق نجاحا كبيرا ولم ترق لمستوى الحدث الكبير وغرقت فى رؤى أصحابها وتقيماتهم الشخصية دون عمق كاف أو رصد وتحليل تلك المرحلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock