رؤى

كيف تطور مفهوم الدولة في مصر الحديثة؟

إذا صار الدين والدولة جسماً واحداً أمكن لرجال الدين أن يضطهدوا من يشاءون
تداخلت العلاقة بين الديني والسياسي عبر تاريخ الإسلام، وحكمها في ذلك الفقه السياسي التقليدي، وذلك حتى مطلع  العصر الحديث ودخول الحداثة، حيث دار الصراع بين الأصوليين والعلمانيين حول طبيعة الدولة ، فبعد رحيل الحملة الفرنسية بأربع سنوات تولى محمد على (1805-1849) حكم مصر، وليسعي إلى تأسيس دولة حديثة مغايرة لما عليه حالة بناء الاجتماع السياسي المصري من نمط تقليدي قديم، فسعى إلى تأسيس جيش حديث قوي يحقق أطماعه في بناء إمبراطورية جديدة على ضفاف النيل، ولم يكن تأسيس هذا الجيش الحديث ليتم دون إدخال العلوم والتقنيات الحديثة ، فترك التعليم التقليدي، وسارع إلى تأسيس مدارس حديثة في الطب والهندسة والطبوغرافيا، وإدخال المطابع، وتحديث تقنيات الزراعة والري، وإدخال الصناعات الحديثة في مجالات متعددة ، فأرسل البعثات للخارج ليبني نخبة جديدة مكونة على تعليم حديث في مجالات شتى. لكن محمد على ترك البنية التقليدية على جمودها سواء في التعلم أو القضاء، وهو ما أسهم في خلق ازدواجية في الحياة المصرية ما بين الديني و الدنيوي ، والتقليدي و الحديثي ، والتراث و الحداثة، والتعليم الديني و التعليم المدني.

محمد علي باشا
محمد علي باشا

وقد شكلت هذه الازدواجية ضغطاً واضحاً على الاتجاه التقليدي الذي حاول أن يعيد بناء الفكر الديني وفقاً لمتطلبات الحداثة، ومحاولة تأصيل المفاهيم السياسية في الدولة الحديثة عبر التراث التقليدي ، فحاول الطهطاوي عبر مؤلفاته تأسيس مقولات الفكر السياسي الحديث حول المواطنة والعدالة والمساواة والحرية عبر الميراث التقليدي.

ومع تطور حكم الأسرة العلوية عبر رموزها بدأ الاجتماع السياسي يشكل قوة ضاغطة على البنية التقليدية وحضور الديني في حركة الاجتماع ، فتم إلغاء أحكام أهل الذمة في عهد الخديوي سعيد، وأدمج اسماعيل المسيحيين في الجيش المصري، وألغى الرق عام 1876م ، وأسس مجلس النواب عام 1863، وفرض إجراءات كثيرة وتغيرات فرضها تطور الاجتماع السياسي، وواجه جمود الفكر الديني في تلك الفترة التاريخية، وتم ترسيخ قانون المواطنة عام 1899 ليتساوى فيه المصريون على اختلاف ألوانهم، وأديانهم ، حيث تم دمج الوافدين من مسيحي الشام والعثمانيين داخل المواطنة المصرية، وأُسِّست المحاكم المختلطة التي أخذت بالقوانين الأجنبية لكي يتقاضى أمامها الأجانب ، وذلك لأن المحاكم الشرعية محاكم لها طابع خاص لا يجوز محاكمة الأجانب أمامها.

مجلس شورى النواب عام 1866
مجلس شورى النواب عام 1866

وعلى الرغم من أن الاجتماع السياسي في مصر قد خلق بنية تحديثية جديدة في التعليم والقانون والقضاء، فإن إصلاحات الاجتماع السياسي كانت في مواجهة مع البنية التقليدية الباقية أثناء إجراء الإصلاحات على الأرض، وكان تطور الاجتماع السياسي ينتصر ضد هذا الفكر الديني الجامد.

كان للبنية التحديثية في الاجتماع السياسي نخبها التي تدافع عنها، وتنظِّر لها، وتشرع قوانينها في مقابل بنية تقليدية جامدة لها حراسها الذين يقفون ضد التقدم ، ويجمدون حركة الواقع، ويقفون حائلاً ضد إرادة الاجتماع في التطور، فكان التطور ينتصر لأن هؤلاء من الممكن أن يعيقوا حركة الاجتماع السياسي قليلاً، ولكنهم لا يستطيعون أن يوقفوا تقدمه بالكلية، فبقدر دعوة حراس التقليد والدين إلى السكون والجمود، بقدر رغبة موجهي الاجتماع السياسي في إحداث التطور والنهضة، ولا شيء يمكن أن يقف في وجه رعاية مصالح الناس والارتقاء والنهضة بها.

 كشفت محاورة محمد عبده / فرح أنطون عن مدى ضغوط الخطاب العلماني على الخطاب الإصلاحي؛ حيث كشف أنطون عن سلبيات الخلافة في التاريخ، وما دار من استبداد في الحكم، وهاجم الممارسة السياسية الإسلامية في أنها اضطهدت العلماء، وكان رد الإمام محمد عبده عليه: “أنه لا يجوز لصحيح النظر أن يخلط ما عند المسلمين بما يسميه الإفرنج ” ثيوقراطي ” أي سلطان إلهي، فذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة، في حين أن الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بالكتاب والسنة”. واضطر الإمام محمد عبده تحت ضغط الخطاب العلماني أن يدين السياسة، ويدين الممارسة الاستبدادية في التاريخ الإسلامي، ويؤكد على مدنية الحكم في الإسلام، حتي لو كانت هذه المدنية لم تتحقق معظم فترات التاريخ الإسلامي.

فرح أنطون ومحمد عبده
فرح أنطون ومحمد عبده

ومن هذه الازدواجية المتصارعة تعددت وتنوعت آفاق تيارات الفكر العربي إزاء مسألة حضور الدين في الاجتماع السياسي، فكانت النخبة العلمانية تريد عزل الدين عن السياسة، لأن التقدم من وجهة نظرهم لا يتأتى إلا بتحرير الاجتماع السياسي من سطوة الديني فكان شبلي شميل يرى”أن فصل الدين عن السياسة أساس مهم لأي شكل من أشكال التقدم الاجتماعي، وأنه مطلوب في العلوم الاجتماعية” ، ورأى سلامة موسى “أن الإسلام في حكم الخلافة جمع بين الديني والسياسي فيقول:” إذا كان الإسلام قد أنتفع من عدم وجود كهنة في نظامه ، ولكن بقاء المسحة الدينية على الخلافة كاد يزيل هذه الميزة التي للإسلام على الكنيسة، فإن المهدي والهادي مثلاً اقترفا فعلاً في خلافتهما من اضطهاد الزنادقة مثلما اقترف الكهنة بمحاكم التفتيش من اضطهاد الهرطقة”.

وانتقد إسماعيل مظهر نظام الخلافة بقوله : “إن الخلافة نظام شاذ كل الشذوذ، وليست هي بسلطة روحية فقط، ولا هو بسلطة زمانية فقط، هو نظام يجمع بين السلطتين، ومزيج من قوتين يجب أن تظلا متفرقتين، فنظام الدنيا والآخرة حُصر في يد فرد واحد، فكان الحاكم بأمره في الناس، وظل الله فوق الأرض، ولذلك فإن هذا النظام لو كان يصلح للماضي لم يعد يصلح للحاضر الآن”.

إسماعيل مظهر وسلامة موسى
إسماعيل مظهر وسلامة موسى

وكانت النخبة العلمانية الحديثة ترى أن اتحاد الدين والدولة في جسد واحد يؤدي إلى حدوث الاضطهاد والاستبداد فيقول سلامة موسى: “ما دام الدين بعيدًا عن الحكومة فإن كهنته لا يمكنهم أن يضطهدوا أحداً ، أما إذا صار الدين والدولة جسماً واحداً أمكن لرجال الدين أن يضطهدوا من يشاءون، ذلك لأن رجال الدين كانوا قابضين على أزمة السلطة في الدولة، ومن ثم فإن هناك طائفة من الناس تضطهد الناس باسم الدين، وقد تكون هذه الطائفة من رجال السياسة”، فكانت النخب العلمانية ترى في فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية سبيلاً للنهضة في أوروبا، ويمكن أن تحرر الاجتماع السياسي في مصر من الاضطهاد الذي يمارسه رجال السياسة باسم الدين، أو يمارسه رجال الدين باسم حراسة العقيدة، وقد احتكمت هذه النخب للممارسة التاريخية الاستبدادية التي حدثت في تاريخ الخلافة الإسلامية، وهو واقع مغاير لما يروج له دعاة الخلافة الذين يعيشون على مرحلة تاريخية في صدر الإسلام.

ومن جانب آخر رأت النخب الليبرالية مثل أحمد لطفي السيد وقاسم أمين  وطه حسين ومحمد حسين هيكل ضرورة تبني النظام الليبرالي الغربي في شؤون الحكم عامةً، وليس فقط فصل الدين عن السياسة، وذلك لأن السياسة تقوم على المنفعة والمصالح ، وأن النظام الليبرالي يؤسس للحريات العامة والخاصة ويؤكد على حرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية الرأي، كما أدانوا نظام الخلافة أيضاً فيقول قاسم أمين: “مضت القرون على الأمة الإسلامية، وهي تحت حكم الاستبداد المطلق، وأساء حكمها التصرف، وبالغوا في اتِّباع أهوائهم، ولا يُستثنى منهم سوي عدد قليل بالنسبة إلى غالبيتهم” ورأى قاسم أمين “أن أغلب الخلفاء كانوا يديرون مصالح الأمة مستبدين برأيهم” ، ولذلك فإن قاسم أمين يدين الخلافة في أعماله ويحملها مسئولية التخلف التاريخي الذي نعيش فيه .

ولم يقف التيار الليبرالي عند هذا الحد؛ فانتقد طه حسين النص الدستوري الذي يقول بأن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، يقول: “بأن الشيوخ يوظفون نصًا في الدستور ينص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي ، فإن معنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور حماية الإسلام من كل ما يمسه أو يعرضه للخطر … ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تمحو حرية الرأي محواً في كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو بعيد سواء صدر عن مسلم أو غير مسلم .”

قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل
قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل

ومع ذلك جاء محمد رشيد رضا عام 1922 ليؤلف كتابه “الإمامة أو الخلافة العظمى” – بعد مؤتمر لوزان عام 1922 الذي أنهى أسطورة الخلافة العثمانية – ليؤكد على أهمية الخلافة الإسلامية، وأهمية الحاجة إليها حيث كان يرى “أن الخلافة هي مناط الوحدة، ومصدر التشريع وسلك النظام، وكفالة تنفيذ الأحكام” ،والغريب أن رشيد رضا بعد سقوط الخلافة ألف كتابه عن الوهابية، كان يروج لتولي الملك عبدالعزيز آل سعود لخلافة المسلمين في مقابل  دعوة البعض لتولي الملك فؤاد هذه الخلافة.

وفي عام 1924 ألف الشيخ على عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم” عقب دعوة البعض لتولي الملك فؤاد مقاليد الخلافة الإسلامية كاشفاً عن مثالب نظام الخلافة ، فيقول: “إن كان في هذه الحياة شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي فهذا هو مقام الخلافة” ، وهنا ينتهي على عبد الرازق إلى أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، فالخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة ، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفه لا شأن للدين بها .

محمد رشيد رضا وعلي عبد الرازق
محمد رشيد رضا وعلي عبد الرازق

وتصدى دعاة الحكم الإسلامي من علماء الأزهر وغيرهم للشيخ على عبد الرازق، وألف الشيخ محمد الخضر حسين، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي الكتب في الرد عليه مؤكدين على أهمية الخلافة في الإسلام، وأهميتها لإدارة شئون الدين والسياسة، وذلك وفقاً للفقه التقليدي الإسلامي الذي يرى في الخلافة حراسة للدين وسياسة للدنيا، وقد تمت محاكمة الشيخ على عبد الرازق من قبل هيئة كبار العلماء، وتم تجريده من العالمية الأزهرية التي كان قد حصل عليها عام 1912.

بعد أكثر من مائة عام، لا يزال السجال الفكري حول مفهوم الدولة وعلاقتها بالدين يتجدد من حين لآخر، وبعد مرور أكثر من قرن علي هذه النقاشات والحوارات ما زالت هي نفسها قائمة فى الفكر السياسي العربي، وما زال الصراع بين التقليد والتجديد كما هو، بل يعود القهقرى للخلف.

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock