رؤى

الكتب العشرة المؤسسة للعنف.. “فقه الجهاد”.. بيان تسويغ العمليات الانتحارية (8) ج١

مؤلف كتاب “مسائل من فقه الجهاد” مصري تضاربت الأقوال بشأن تسميته؛ فاسمه المشهور به في أوساط الجماعات المتشددة هو “أبوعبد الله المهاجر”، بينما يُفصح  كتاب آخر له  بعنوان “أعلام السنة المنشورة في صفات الطائفة المنصورة”  علي اسم آخر له هو “عبد الرحمن العلي” يُرجح أنه اسمه الحقيقي .

تعود أصول المؤلف إلي الريف المصري  قبل أن يهاجر إلي أفغانستان مطلع الثمانينيات ويحوز علي لقب “أبو الأفغان المصريين”، والتقى أسامه بن لادن هناك واختلف معه حول عقائد طالبان الصوفية والمذهبية التي تعود إلي المذهب الحنفي، واتهم “بن لادن” بالتساهل تجاه عقائد طالبان، بيد أنه خفف من غلواء نقده وانتظم ضمن الخط العام لتنظيم القاعدة في عدم إثارة الخلافات العقائدية لمصلحة العمل الجهادي، سافر إلي باكستان وتلقى تعليمه في الجامعة الإسلامية وحصل علي درجة الماجستير، بيد أنه لم يكمل الدكتوراه وعاد إلي أفغانستان عام 1995 بسبب تفجير السفارة المصريه هناك.

أسامة بن لادن
أسامة بن لادن

التقى أبا مصعب الزرقاوي بمعسكره في “هيرات ” بأفغانستان، وجمع بينهما التشدد الخالص والعقل التطهري الذي يريد أن يخلق عالما متوهما  يستحيل تطبيقه في الواقع. كان المهاجر هو من أقنع أبا مصعب الزرقاوي بجواز العمليات الإنتحارية، وكان لا يجيزها قبل أن يقابله، حتي أصبح يؤمن بوجوبها بل واستحبابها علي حد قول الزرقاوي نفسه الذي كان يعتبر العلي شيخه ويشعر بالامتنان العميق تجاهه .

كتابات “عبد الرحمن العلي” وعلى رأسها كتاب “مسائل من فقه الجهاد”، مثلت المرجع الرئيسي لجماعة الزرقاوي في العراق بعد الاقتحام الأمريكي لبغداد عام 2003، وكان يتم تصوير كتاباته وتدريسها في المثلث السني وتوزيعهما علي الناس، كما فُرض تدريسها علي “مجلس شوري المجاهدين”، ووصل الكتاب الذي كان يوصف باسم آخر هو “فقه الدماء” في نهاية عام 2004 إلي العراق .

انتهى عبد الرحمن العلي من إنجاز كتابه الضخم الذي يقترب من ستمائة صفحة عام 1425ه – 2004م، وفي المقدمة يقول: “هذه الرسالة هي في الأصل الباب الثاني من رسالة أخري كبيرة بعنوان (الجامع في فقه الجهاد)”، ويبدو أن الظاهرة الجهادية مع تطورها واتساعها قد بدأت تميل لاستخدام المؤلفات الكبيرة تحت عنوان “الجامع” ليكون دليلا كافيا لمن يقرأه، يحركه ويتحرك به، ويعد المصري “سيد إمام الشريف” أول من اجترح سبيل التأليف الموسوعي داخل هذه الجماعات الراديكالية الجديدة في كتابه  الذي حمل عنوان “الجامع في طلب العلم الشريف”، ومن قبله كتابه “العمدة في إعداد العدة”.

سلمت السلطات الإيرانية المؤلف إلي السلطات المصرية بعد عام 2002، حيث كان معتقلا هناك بعد ضرب أفغانستان وسقوط إمارة طالبان بعد أحداث سبتمبر 2001، وأُطلق سراحه عام 2011 بعد الثورة المصريه وسافر إلي سوريا للقتال هناك في صفوف جبهة النصرة حيث قُتل في نوفمبر عام 2016م في ريف إدلب بضربة صاروخية أمريكية  استهدفت سيارته مع اثنين آخرين.

جدل البيئة والجيل والعالم

يشير المؤلف في مقدمة كتابه “فقه الدماء” إلى أنه كتبه لتنظيمه، وكأنه يشعر أن ما كتبه يعكس خروجا علي كل سير العلماء والفقهاء الذين ألفوا وكتبوا عن الجهاد باعتباره وسيلة وليس هدفا في ذاته، وباعتباره سبيلا للدعوة والهداية، وفتح الأبواب أمام عدلها وسماحتها ورفضها للإكراه في الدين وقبولها للمخالفين من غير عقيدتها وترتيب أحوالهم وشؤونهم وفق قاعدة تحقق لهم حرية الاختيار والتفكير بعيدا عن الضغوط والقهر والسيف والدم .

يقول العلي: “ما كتبت هذه الرسالة للمعرضين عن أمر الله.. ولا للمقدمين عقولهم بين يدي الله ورسوله، المتخذين سياسات الكفرة في الشرق والغرب مصدرا لزبالة أفكارهم.. ولا للمنهزمين أمام الواقع من أهل الترقيع والتلفيق “

نحن أمام جيل أفغانستان الأول الذي أسس الأفكار في بيئة قتال وعنف وتشدد وغلو،  ليمنحها لجيل جديد ثان يتخذ من هذه الأفكار منهجا يطبقه في واقع العراق الوحشي بعد سقوط عاصمة العباسيين بغداد عام 2003م من قبل المحافظين الجدد في أمريكا ومنظريهم الداعين إلي صراع الحضارات ونهاية العالم، وهو ما أنتج معادلا موضوعيا متشابها معهم  في عالمنا الإسلامي يدعو إلي المجابهة والدم والتوحش، وكما يشير عابد الجابري “ما يجري في عالم اليوم ليس صراع حضارات وإنما هو صراع الحضارة الغربية مع نتاجها، وأن العولمة الرأسمالية الإمبريالية التي لا وطن لها والتي يديرها طغمة من الحالمين المتطرفين الطموحين قد أفرزت نقيضها وعلي صورتها”.

مقاتلين أفغان
مقاتلين أفغان

مؤلف الكتاب “عبد الرحمن العلي” عُلم عنه أنه مهتم بالتأليف والتعليم وإصدار شرائط الكاسيت.. وعُلم عنه مبالغته في التشدد والغلو وتصنيف البشر وفق معاييره الخالصه الحالمة التي تريد أن تخلق عالما يستعيد به دار الإسلام القديمة، دون أن يُدرك أن كل زمن له خلقه وله ناسه وأفكاره ، وأن محاولة صنع عالم متوهم يتعالي علي واقع الناس ويتجاهل حياتهم ومعاشهم ويرتد عائدا لأزمان مضت وأحوال تلاشت وانتهت، سوف تقود إلي العنف والدماء والقتل والوحشية التي بدا عليها مؤلف الكتاب وأفرغها في مصنفه الدموي الذي أطلق عليه “أحكام الدماء” وهو عنوان لم يُعرف أبدا  في تاريخ العلوم الإسلامية ولا التأليف الفقهي أو البياني أو الكلامي أو الفلسفي علي الإطلاق .

يسترعي الانتباه أن يُطلق المؤلف على مؤلفه الضخم الذي يزيد علي خمسمائة صفحة “الرسالة التي كتبت”، وهى الكلمة الموحية التي لطالما حرص العديد من منظري العنف الجهادي على استخدامها، وهو ما يعني استحضار معني البلاغ والبيان وإضفاء طابع القداسة علي ما يكتبه وكأنه يقوم مقام المبلغين حاملي الرسالات، صناع الهداية للبشر الذين إن لم يتابعوهم ويسيروا في ركب أفكارهم فكأنهم خالفوا الأنبياء والمرسلين، وحق عليهم العذاب البئيس .

ينزع المؤلف إلي أسلوب الصدمة في اختياراته الفقهيه فهو يجعل من الاستثناء قاعدة،، ويجعل من الآراء المغالية المتشددة أساسا لاختياراته وأحكامه، إنه يلتقط من كتب الفقهاء القدامي ما يعبر عن أفكاره المسبقة ونوازعه النفسيه والداخلية التي تخلقت في بيئة عنف وتشدد وحرب ودماء كشأن المؤلفات الأخري التي أسست للتوحش المعاصر فقد كُتب أغلبها في دوامة الحرب الأفغانية مع الروس أولا ثم مع الأمريكان من بعد، ثم طبقت في دوامة الحرب الأمريكية في العراق وقام علي تطبيقها بشكل أساسي “أبو مصعب الزرقاوي” تلميذ مؤلف الكتاب ومسعر الحرب الطائفية ومنفذ تكتيك جز رؤوس الرهائن الغربيين علي الهواء مباشرة عبر الفيديوهات التي يبثها تنظيمه لإثارة الرعب والصدمة والتخويف للغرب وللمسلمين علي السواء .

أبو مصعب الزرقاوي
أبو مصعب الزرقاوي

التقسيم القديم للعالم

يتصور مؤلف الكتاب أن العالم يعيش كما كان قبل العصور الحديثة وظهور النظام العالمي الجديد التي تعد الدولة القومية هي عماده وهي وحدته الفاعلة والأساسية المكونه له؛ ومن ثم فهو يستعيد التقسيم القديم للعالم إلي دارين، دار إسلام وداركفر وحرب ويرسخه كمعلوم من الدين بالضرورة، ولا نعرف إلي ماذا استند – هو وغيره – إلي اعتبار ذلك التقسيم معلوما من الدين بالضرورة؟ فالمعلوم من الدين بالضرورة هو ما لا يسع المسلم جهله من الإيمان والإسلام والنبوات،، وغالب المسلمين في العالم اليوم لا يعرفون هذا التقسيم من الأساس، وهم يعرفون أنفسهم باعتبار البلدان التي يعيشون فيها، وملايين المسلمين يعيشون في أوروبا وأمريكا وفي الصين واليابان، وغيرها من دول العالم، فلم يعد المسلمون يعيشون فقط في مكان محدد خاص بهم كما كانت العلاقة بين دار الكفر والشرك في مكة وبين دار الإيمان والإسلام الوحيدة في ذلك الوقت وهي المدينة، وهو ما جعلنا في موضع آخر نذهب إلي أن” الإنسان هو حامل رسالة الإسلام وليست الدار التي كان الفقيه القديم لا يتصور قياما للدين إلا بوجودها”.

التقسيم الفقهي للديار كان أداة وسبيلا لمحاولة فهم العالم وبناء تصور للعلاقات معه، ولم يكن مقصودا به نصب مواجهة مع كل العالمين،، أو صنع حرب مع بقية المخالفين وبناء عالم مثالي يقف فيه التاريخ كما فعل “فوكوياما” وينتصر الإنسان الخاتم والأخير،، ولكن كان هناك إدراك ببقاء الاختلاف والتسليم لأهل الكتاب وحتي للوثنيين بالوجود والتعايش،، وكان الناس قبل الإسلام علي دين ملوكهم والإسلام هو الذي فتح للبشرية بابا من التسامح حين أرسى قواعد التعايش مع المختلفين معه في العقيدة والدين ورتب لهم أحكاما وأوضاعا لا يمنحها لهم المسلمون وإنما هي عقد والتزام وترتيب إلهي وليس وضع بشري .

فوكوياما
فوكوياما

يقيم المؤلف حربا لا تنتهي مع العالمين المختلفين مع المسلمين في العقيدة فيقول “الكفر سبب للقتال، ومن ثم فكل من لم يتدين بالإسلام فهو مباح الدم والمال، فلا عصمة للكافر إلا بإيمان أو أمان”، أي أن مليارات البشر من غير المسلمين من جميع الملل  والأديان والمذاهب هم مستباحو المال والدم،، وهو أمر تأباه الفطرة السليمة والعقل السوي،، فهم مقصودون بالدعوة والهداية وليس بالاستباحة للمال والدم،، والعالم اليوم إذا كان من الوارد أساسا تقسيمه من الناحية الإجرائية فهو دار للدعوة ودار للاستجابة،، أي دار مقصودة بالعمل عليها لدعوتها لدين الإسلام بالقدوة والعمل الصالح بغير إكراه أو تنفير،، ودار الاستجابة هم المسلمون فعلا،، والإنسان أيا كان حتي لو كان مختلفا في الدين أو العقيدة فهو موضع تكريم إلهي “ولقد كرمنا بني آدم” والمعنى أي إنسان علي  وجه الأرض، والاختلاف سنة اجتماعية كونية ماضية لا تختل ولا تهتز “ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم”، وتوهم خلق عالم أو دار صافية خالصة نقية للمسلمين فقط هو مسلك الحالمين السائرين إلي طريق العنف والدم والتوحش .

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock