رؤى

البكاء عند الجماعات الجهادية الحديثة (1)

عرض وترجمة: أحمد بركات
في منتصف العقد الأول من هذه الألفية، قام زعيم “القاعدة في العراق”، أبو مصعب الزرقاوي، بتنفيذ بعض أعمال العنف التي تتسم بالوحشية حتى أنه عُرف بين رفاقه بـ “الذباح”. والتقطت وسائل الإعلام العالمية هذا اللقب، وقبيل مقتله في غارة جوية أمريكية بطائرات بدون طيار في عام 2006، كان الزرقاوي قد تحول إلى رمز للوحشية المفرطة في الجماعات الجهادية المعاصرة. ومن غير المعروف لدى كثيرين أن الزرقاوي كان أيضا معروفا بـ “البكاء”؛ فبحسب أحد رفاق محبسه السابقين، كان الزرقاوي “كثير البكاء وذا عاطفة جياشة كالأطفال”. كما أشار أحد مساعديه إلى أنه كان “يبكي بحرقة خاصة عندما يتعلق الأمر بنساء المسلمين وما يتعرضن له من عمليات اغتصاب”، ويضيف: “كان على الأخ المسئول عن إعداد بياناته الصوتية أن يعيد التسجيل مرارا وتكرار بسبب إجهاشه في البكاء”.

أبو مصعب الزرقاوي
أبو مصعب الزرقاوي

في واقع الأمر، لم يكن الزرقاوي متفردا في هذا الملمح، كما أن وصفه بـ “البكاء” لم يكن من قبيل الاستهانة بجسارته أو تقليلا من قدرته على الصبر والتحمل. فالبكاء ظاهرة تنتشر على نطاق واسع في أوساط الجماعات الجهادية المعاصرة، ولا يتحلى به إلا المقاتلين الشجعان، فيما يمثل إشارة واضحة على التأثير الصوفي المغموط على الجهادية المعاصرة.

ربما تثير ظاهرة البكاء عند الجماعات الجهادية المعاصرة فضول ودهشة الكثيرين لأسباب عديدة. فقد يجد غير المسلمين أنه من غير المفهوم أن تشجع ثقافة فرعية ارتبطت منذ نشأتها بالعنف الشديد والذكورة المفرطة على البكاء. أما من هم على دراية بقيمة “البكاء الديني التعبدي” في الإسلام فسوف يكونون أقل حيرة تجاه هذه الظاهرة، لكنهم قد يتساءلون كيف يتبنى سلفيون متشددون ممارسة ترتبط بالأساس بالصوفية والتشيع، وهما العدو الأيديولوجي اللدود للجهادية السلفية. علاوة على ذلك، فإن صورة المتشدد الذي تستغرقه المشاعر الدينية تتعارض على خط مستقيم مع التصور الشائع للراديكاليين في العصر الحديث باعتبارهم انتهازيين لا يربطهم بجوهر الدين سوى التزام سطحي. وبرغم هذه التساؤلات، فإن ظاهرة البكاء عند الجماعات الجهادية الحديثة لم تستوف حقها من الدراسة، وهو ما يرجع على الأرجح إلى صعوبة الحصول على معلومات حولطبيعة الحياة داخل هذه الجماعات.

كما سنرى، فإن الجماعات الجهادية تشجع أعضاءها على البكاء الذي يحدث في مواقف متنوعة يتوافق معظمها مع الأعراف الإسلامية التقليدية الراسخة في هذا الباب. ويمثل البكاء الجهادي جهدا دؤوبا لتشكيل الذات، ومحاكاة مخلصة لسلوك إسلامي مثالي متجذر في نموذج النبي وأصحابه، ومحاولة لإعادة إنتاج أحد تجليات الأصالة الإسلامية. في الوقت نفسه، يتبنى الجهاديون المعاصرون ممارسة بكائية شكلية شبه طقوسية لا تختلف في كثير عن تلك الموجودة في التيارات الصوفية والمذهب الشيعي، وهو ما يضيف بقوة إلى زخم الأدلة التي تشير إلى تبني الحركة الجهادية المعاصرة – برغم سلفيتها المعلنة – لبعض الأفكار والممارسات الصوفية.

داعش
داعش

من هنا، تتطور هذه الدراسة عبر أربعة محاور. يقدم المحور الأول تقييما للأدبيات الأكاديمية التي تتناول البكاء (سيكولوجيا وإنثربولوجيا البكاء: البكاء في الإسلام). ثم تنتقل الدراسة إلى آراء الجهاديين في البكاء حسبما تعبر عنه دعايتهم (ماذا يقول الجهاديون في البكاء). ويصف الجزء الثالث السياقات الرئيسة التي يمارس فيها الجهاديون الحديثون هذا الطقس (متى يبكي الجهاديون). ويحاول الفصل الأخير تحديد الأسباب التي تدفع بالجماعات الجهادية إلى البكاء بدرجة قد تبدو كبيرة (لماذا العاطفة الجياشة).

ماذا يقول الجهاديون في البكاء

برغم ندرة النصوص الجهادية التي تتحدث صراحة عن البكاء، إلا أنه لا يوجد شك في تأييدهم له، حيث نراه موصوفا ومصورا في جميع مصادرهم، وكثيرا ما يظهر في مجلاتهم، وسير الاستشهاد، والسير الذاتية، ومقاطع الفيديو، ومونتاج الصور، والمناقشات في المنتديات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. كما يظهر بشكل خاص في المواد الدعائية وقصص الانشقاقات، مما يؤكد موضوعية التقارير الخاصة به وعدم انحيازها إلى أجندات أيديولوجية. وبالتالي، لا يبدو أن هناك أي موانع تتعلق بالممارسة في ذاتها، أو عرضها للعالم الخارجي. كما لا يوجد أي كلمة في المصادر الخاصة بهذه الجماعات – في حدود علم كاتب هذه السطور – تمثل انتقادا أو تحفظا ضد البكاء التعبدي (يمثل البكاء غير التعبدي أمرا آخر، كما سنرى لاحقا).

وعلى طرف النقيض، يتم الإعلان عن البكاء، سواء داخل الجماعة أو إلى العالم الخارجي. وبرغم حدوث البكاء الانعزالي، يبدو أن الجهاديين يبكون في الغالب في حضور رفاقهم، إذ لا يتورع الأفراد عن البكاء بمفردهم أمام آخرين، كما توجد أمثلة كثيرة للبكاء الجماعي. إضافة إلى ذلك، غالبا ما يتم عرض البكاء في الدعايا، مما يشير إلى وجود رغبة في تسليط الضوء على هذه الحقيقة ونشرها. وتوجد العديد من الأمثلة لمقاطع فيديو وصور دعائية جهادية تكون فيها اللقطة المركزية لمقاتل يبكي.

في المصادر الجهادية، يتم إبراز البكاء بصورة إيجابية للغاية. وتشير العديد من النصوص إلى أن الإسلاميين المتشددين يعتبرون هذه الممارسة جزءا لا يتجزأ من الجهاد الخالص، حيث يُنظر إليه على أنه علامة على الورع والتقوى، ومن ثم، فهو دليل على أن الشخص لا يجاهد ابتغاء المال أو أي أسباب أنوية أخرى. على سبيل المثال، أشارت مجلة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014 إلى أنه “في الماضي القريب كان المسلمون المخلصون يبكون ويتضرعون من أجل الهروب من أرض القعود إلى أرض الجهاد، حتى لو قضى حياته كجندي مرابط يتحين الفرصة من أجل المشاركة في المعركة”.

الجماعات الجهادية

ليس معنى هذا أن جميع الجهاديين يمارسون هذا الطقس البكائي، أو أن جميعهم يلقبون بالبكائين. في هذا السياق تشير المصادر إلى أن ’ملكة‘ البكاء ليست متساوية لدى الجميع، وهو ما يزيد في واقع الأمر من قيمة هذه الملكة، ويجعل الألقاب الدالة عليها بدرجات متفاوتة، مثل “بكاء”، أو “باكي”، أو “كثير البكاء”، محفوظة لأشخاص بأعينهم داخل الجماعة الواحدة. فالداعية الذي يذرف الدموع أثناء خطبته ويُبكي الآخرين يمكن أن يطلق عليه ’الباكي المبكي‘. ويمكن أيضا الاحتفاء باستعداد المقاتل للبكاء بعبارات أخرى. على سبيل المثال، قيل إن زعيم الخلية التي كانت وراء هجوم مدريد في عام 2004، عبد المجيد فاخت، كان يتحدث بـ “قدر كبير من العاطفة والحماس”، وإنه “يمكنه حتى أن يبكي من فيض العاطفة”.

وبشكل قاطع، لم يكن البكاء ينتقص بحال من قدر المقاتل، أو يتعارض مع ما يتمتع به من جسارة وضراوة. وعلى غرار أبي مصعب الزرقاوي، احتفى الجهاديون بعدد من أشد مقاتليهم ضراوة بسبب قدرتهم على البكاء. فقد وصفت مجلة دابق “الجهادي جون”، عضو تنظيم الدولة الإسلامية الذي ارتبط اسمه بتنفيذ عمليات إعدام سيئة السمعة، بأنه “باكي”. وبوجه عام، فقد ارتبط البكاء في سير المجاهدين بالغلظة، وهو ما يتسق مع الرسالة السنية الجهادية في عمومها كما وردت في القرآن (على سبيل المثال: “سورة المائدة، الآية 54″، و”سورة محمد، الآية 29″، وسوة التوبة، الآية 73″، حول المسلم المثالي الذي يكون في أوقات الحروب رحيما بالمسلمين وغليظا على الكافرين).

_________________

*يقصد بـ “الجهادية” في هذه الدراسة “الإسلاموية السُنية العنيفة العابرة للحدود”. ورغم اعتراض بعض المسلمين على ربط الجهاد بالأنشطة العنيفة التي تقوم بها هذه الجماعات، إلا أن مصطلح “جهادي” يعد الآن مصطحا راسخا في الدوائر الأكاديمية والإعلامية، بما في ذلك في العالم الإسلامي نفسه. ويرجع الفضل في شيوع هذا المصطلح إلى ملاءمته كاختصار لتعبيرات أكثر تعقيدا. كما يستخدم المتشددون أنفسهم هذه الصفة “جهادي” على نطاق واسع. وفي الاستخدام الأكاديمي، يمثل “جهادي” مجرد صفة ليس لها قيمة معيارية في الجدل الإسلامي حول طبيعة الجهاد.

——————————-

توماس هيجهامر – كبير باحثين في “مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية” (FFI)، التابعة لجامعة أوسلو

هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock