ثقافة

روسيا تعيد الجسور الثقافية مع العالم العربي

لا تغفل الدول الكبرى قواها الناعمة، تستحضرها، تنظمها، وتعيد حشدها في أية انطلاقة جديدة للتأثير الجيوسياسي.

من هنا تسعى روسيا باعتبارها إحدى القوى الصاعدة في سماء السياسة الدولية منذ بدء الألفية الثالثة لاستعادة مجدها السالف زمن الاتحاد السوفيتي عبر قواها الناعمة، ولاشك في أن أبرز تلك القوى هي الثقافة والفنون المختلفة، تلك التي دلفت بها روسيا السوفيتية في الماضي إلى كل بيت عربي حتى أن أجيالا كاملة من المبدعين تربت على الآداب والموسيقى والفنون الروسية.

وتثير التقاربات الثقافية الأخيرة بين بلدان عربية عديدة وروسيا التساؤلات حول مدى قدرة موسكو على استعادة المكانة الثقافية المؤثرة لها في حقل الثقافة العربية؛ فثمة تحركات إيجابية تعكس بقوة ووضوح اهتماما روسيا بإعادة مد جسور التأثير الثقافي مع العالم العربي من خلال قنوات متنوعة أبرزها الوكالة الفيدرالية لشئون الدول المستقلة والتعاون الإنساني الدولي التابعة لوزارة الخارجية الروسية، والتي بدأت مؤخرا مشروعا قوميا لاستعادة التأثير الثقافي في العالم العربي بدعم قوي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا.

وتقابَل تلك التحركات بتفاعل عربي رسمي وشعبي مواز يؤمن بإمكانية الاستفادة الحضارية من الثقافة الروسية في ظل تعقدات وتحولات درامية تشهدها المنطقة.

فلاديمير بوتين
فلاديمير بوتين

خطوات تقارب

وتشير دلائل عديدة إلى تنفيذ خطوات واسعة وحقيقية في مضمار التقارب الثقافي الروسي العربي، منها مثلا إعلان دائرة الثقافة في أبوظبي اختيار روسيا ضيف شرف معرضها في فبراير 2020. وهو ما جاء  متتاليا لاختيار روسيا في سبتمبر من الماضي خلال معرض الكتاب الروسي اختيار إمارة الشارقة الإماراتية كعاصمة للكتاب في العالم.

في الوقت ذاته، قام الرئيس الروسي بوتين، قد منح خلال نوفمبر 2019 وسام “بوشكين”، وهو أرفع الأوسمة الأدبية في روسيا إلى الأكاديمية المصرية الدكتورة مكارم الغمري أستاذ الأدب الروسي في جامعة عين شمس تقديرا لدورها في دعم الثقافة الروسية وترجمتها إلى العربية.

وعلى مدى السنوات الخمس الأخيرة شهدت كثير من العواصم العربية الأخرى إقامة مراكز ثقافية روسية جديدة كان من بينها مركزا في الإمارات، وآخر في الأردن، وآخر في مناطق السلطة الفلسطينية، ما يعكس إهتماما متزايدا تجاه نشر الثقافة الروسية بقوة في العالم العربي.

فضلا عن ذلك فإن روسيا تولي إهتماما كبيرا بالتعاون الثقافي مع سوريا، من خلال دعم الثقافة والآثار والتعليم، ويكفي للتدليل على ذلك أن متحف الأرميتاج الروسي وقع في منتصف نوفمبر الماضي اتفاقا مع مديرية المتاحف والآثار السورية لإصلاح وترميم الآثار والمتاحف السورية التي تعرضت للدمار نتاج الحرب. إلى جانب الإعلان عن 500 منحة سنوية للطلاب السوريين للحصول على الماجيستير والدكتوراة في العلوم الإنسانية والتطبيقية من الجامعات الروسية.

وتؤمن الدولة الروسية بأهمية الثقافة والابداع كأذرع مساعدة تساهم في تعزيز دورها السياسي، ويهتم الرئيس فلاديمير بوتين بالأدب والفنون بشكل كبير حتى أنه كثير الحديث عن الروايات التي شكلت ذوقه الفني، وذكر في تصريحات صحفية سابقة أنه يعتبر رواية “سوار العقيق” لألكسندر كوبرين هي روايته المفضلة، كما أنه يدين بالإحساس الفني  للموسيقار الرائد تشايكوفسكي الذي يعزف كثير من مقطوعاته الموسيقية. ويرى المحللون السياسيون بوتين كوطني لديه رغبة شخصية ودافع عميق لرد الاعتبار لبلاده، واستعادة مجدها.

ضرورات التلاقي

ويعتبر البعض عودة جسور الثقافة الروسية العربية في الوقت الحالي ضرورة تتجاوز التلاقي الحكومي الآني بين روسيا والدول العربية، فمن ناحية، فإن روسيا في حاجة إلى تحسين صورتها على المستوى الشعبي العربي، والتي تدهورت في أعقاب الحرب مع أفغانستان في ظل صعود التيارات الدينية بالشارع العربي.

ومن ناحية أخرى، فإن بيئة الابداع العربي في حاجة إلى نماذج إبداع حقيقي يحظى بالقبول لدى العامة، خاصة أن النماذج الغربية غير ملائمة للبيئات العربية فكرا ومضمونا.

كما أن هناك حالة من التمرد على الثقافة الغربية التي حمّلها البعض نتائج اشتعال الحروب الأهلية في سوريا، ليبيا، والعراق.

ورأت الدكتورة نورهان الشيخ مدير ومؤسس وحدة الدراسات الروسية بجامعة القاهرة أن الفرصة سانحة لعودة تأثيرات الثقافة المتبادلة بين العالم العربي وروسيا في ظل التقارب الحادث مؤخرا، والذي يبشر بشراكة ثقافية مماثلة لما كانت في الخمسينيات والستينيات.

الدكتورة نورهان الشيخ
الدكتورة نورهان الشيخ

وقالت نورهان لـ”اصوات أونلاين”إن جسور العلاقات الثقافية بين روسيا والعالم العربي لم تنقطع يوما كما يظن البعض حتى بعد حالة الجفاء المصري الروسي خلال عهد السادات، فقد ظلت العلاقات العربية الروسية قوية جدا وكان ذلك على وجه الخصوص مع سوريا، حيث توجد زيجات عديدة بين سوريين وروسيات، ومع لبنان حيث تعيش هناك جالية روسية كبيرة منذ الحرب العالمية الثانية. كذلك مع فلسطين والجزائر والعراق.

وأوضحت أن العرب بشكل كبير أميل إلى الصداقة مع الروس لأن روسيا لم تكن يوما من الأيام دولة استعمار، مثلما هو الحال مع معظم الدول الأوروبية، ما يعني أن مد جسور التلاقي وتعزيز التعاون الثقافي مقبول شعبيا بدرجة كبيرة.

وقال  الكاتب والباحث السياسي جمال رشدي لـ”أصوات أونلاين” إن الوقت مثالي للتقارب الثقافي، لأن بيئة الابداع في العالم العربي تعاني من فقر واضح.

وإذا كان معظم جيل الرواد من الأدباء العرب قد أكدوا مرارا أنهم تربوا على الأعمال الكلاسيكية الخالدة للأدباء الروس مثل تولستوى، وتشيخوف، ومكسيم غوركي، وإذا كانت أجيال الموسيقيين العظام والفنانين التشكيليين العرب استفادت كثيرا من الفن الروسي، فإن روسيا الآن مازالت تمثل منبع ثقافة وإبداع  لا ينضب.

وهناك إهتمام لدى جمهور القراءة بمتابعة الشعر الروسي الحديث، وروايات ما بعد الحداثة.

الباحث جمال رشدي
الباحث جمال رشدي

وقال المترجم  أحمد صلاح الدين، والذي ترجم كثير من الأعمال الأدبية الروسية إلى العربية، لـ”أصوات أونلاين”إن الإبداع جين أصيل ودائم في الشخصية الروسية.

وحكى أنه عندما كان يدرس في روسيا قبل 2004  زار مع الطلبة المغتربين مدارس روسية عامة في بعض ضواحي المدن، وهناك استمعوا لعزف تلميذ بالصف الرابع الابتدائي يعزف مقطوعة موسيقية رائعة لتشايكوفسكي، كما زاروا أحد المتاحف ليجدوا مئات الزوار من الروس من الفلاحين والطبقات الفقيرة تقف في سعادة وانبهار لمشاهدة لوحة فنية بديعة، ما يعني أن الابداع والثقافة تجريان في شرايين الشخصية الروسية باختلاف طبقاتها الاجتماعية.

وأكد أن الأدب الروسي الحالي قوي التأثير ونافذ إلى نفس الإنسان العربي، بشرط ترجمته ونقله نقلا أمينا، مدللا على ذلك بالإقبال العربي الكبير على مشاهدة مسلسل “تشيرنوبل” والمأخوذ عن رواية “صلاة تشيرنوبل” للروائية الروسيةسيفتلانا أليكسيفتش، والتي قام هو بترجمتها إلى العربية.

أضاف أن ذلك الأدب متطور عبر الزمن ويعكس قضايا إنسانية عميقة تتلاقى وحاجات البشر، وتتشابه مع تطلعات وتساؤلات العالم العربي.

وتابع قائلا إن الأدب الروسي أقرب لنا لأنه غير تخييلي ويلتفت لقضايا الواقع.

وأشار إلى أن هناك الكثير من الأدباء الروس يردون في قوائم الترشيح لجائزة نوبل للآداب، وكان هناك خمسة أدباء روس حصلوا على الجائزة من قبل، ولولا التحيزات السياسية تجاه الاتحاد السوفيتي لحصل كثيرون على نوبل.

المترجم أحمد صلاح الدين
المترجم أحمد صلاح الدين

جسور مبكرة

ويمكن القول أن الأدب الروسي الكلاسيكي غرس دعائمه في الساحة العربية مبكرا نتيجة عدة عوامل كان أبرزها احتكاك الثقافة الروسية بالعالم العربي من خلال الثقافة الإسلامية حيث يوجد ملايين المسلمين روس، والمسلمين من الدول المجاورة التي انضمت فيما بعد للإتحاد السوفيتي. فضلا عن الرحالة العرب إلى روسيا  وأشهرهم الرحالة العربي أحمد بن فضلان الذي قام برحلته في 922 م ، وبالمثل الرحالة الروس إلى البلدان العربية، ما أدى إلى تأثيرات عديدة متبادلة.

وتؤكد الدكتورة منال الغمري في كتابها “مؤثرات عربية في الأدب الروسي” أن الكاتب الروسي لي تولستوي(1828ـ 1910) استعان بأحاديث نبوية عديدة ليؤكد جوهر سعي الإنسان لخدمة الناس ونفعهم، ما دفع إلشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء برثاء تولستوي عند وفاته في قصيدة قال فيها:” تولستوي تجري آية العلم دمعها/ عليك ويبكي بائس وفقير/ ويندب فلاحون أنت منارهم/ وأنت سراج غيبوه منيرُ”

مؤثرات عربية في الأدب الروسي
مؤثرات عربية في الأدب الروسي

وانطلقت حركة الترجمة العربية للأدب الروسي عبر لغات وسيطة في البداية، وقام المترجم السوري سامي الدروبي بنقل كثير من الأعمال الأدبية الروسية إلى العربية من خلال ترجمتها من اللغة الفرنسية، ثم تطور الأمر بعد ذلك للترجمة من الروسية حيث قام الروائي العراقي غائب طعمه فرمان، والسوري أبو بكر يوسف بترجمة أعمال أدبية عديدة كان أبرزها أعمال ديستوفسكي،وتشيخوف. وسادت خلال الأربعينيات والخمسينيات حركة ترجمة قوية مدعمة من الإتحاد السوفيتي في سبيل التبشير بالأيدولوجية السوفيتية وساعد على تقبلها والافتتان بها على المستويات الشعبية أن الإتحاد السوفيتي لم يمثل أي نوع من الاستعمار للدول العربية بل ساند قضايا الفقراء ودعوات التحرر.

كذلك فقد دعم الإتحاد السوفيتي حركة النشر بقوة حتى أنه كان ينشر الأعمال الكلاسيكية بعد ترجمتها إلى العربية بأسعار رمزية جدا، وأنشأ دورا عديدة لذلك مثل دار التقدم، دار “رداوغا”، ودار”مير” وكان يتم توزيعها عن طريق دار الشرق في مصر خلال الستينيات. في الوقت نفسه قام المستعربون الروس بترجمة أعمال الأدباء العرب الرواد مثل توفيق الحكيم، طه حسين، نجيب محفوظ، وحنا مينا إلى الروسية. وكان من المدهش أن سيرة ” الأيام” لطه حسين وزعت منها 180 ألف نسحة بعد ترجمتها إلى اللغة الروسية.

دوستويفسكي وتشيخوف وتولستوي
دوستويفسكي وتشيخوف وتولستوي

وكان من الواضح أن الدعم السوفيتي اللامحدود لنشر الثقافة الروسية في ربوع الوطن العربي، دفع الولايات المتحدة أن تنحو نحوا مشابها من خلال تجربة  مجلة “ريدرز دايجست” التي صدرت نسختها العربية باسم المختار في مصر سنة 1943، غير أن التجربة الأمريكية في هذا الشأن لم تستطع مجابهة حركة الترجمة السوفيتية لبعد قضاياها عن قضايا المواطن العربي، فضلا عن مساندة الولايات المتحدة لدولة إسرائيل فور تأسيسها سنة 1949، ما أولد نفورا وعداء شعبيا تجاه الثقافة الأمريكية.

وقال المترجم أحمد صلاح الدين إن حركة ترجمة الأدب الروسي تراجعت كثيرا مع زوال الاتحاد السوفيتي وتوقف الدعم الحكومي للمؤسسات الثقافية، فضلا عن قلة عائدات الترجمة للمترجمين العرب حال النشر الخاص، لكن رغم ذلك فإن ترجمة أي عمل أدبي روسي حديث يلقى احتفاءاً عظيما من جانب جمهور القراءة، مشيرا إلى أن الروايات الروسية الحديثة التي قام بترجمتها تدخل دوما في قوائم الأكثر مبيعات في كثير من الدول العربية.

ويرى البعض أن استعادة الدور والتأثير الروسي يجب أن يصاحبه عودة لنظام المنح التعليمية والبعثات الدراسية بإعتبارها الأقدر على تحديث شبكات التلاقي الحضاري.

وقال القاص المصري أحمد الخميسي، والذي درس في روسيا خلال السبعينيات، وعاش هناك حتى حصل على الدكتوراة في الأدب الروسي من جامعة موسكو، لـ”أصوات أونلاين” إن تقديم الإتحاد السوفيتي لمنح تعليمية مجانية للشعوب العربية ساهم في خلق أجيال عديدة من المثقفين المشبعين بالفن والإبداع الروسي العظيم.

القاص المصري أحمد الخميسي
القاص المصري أحمد الخميسي

وفي رأيه، فإن استعادة التأثير الثقافي الروسي في العالم العربي يستدعي العودة إلى نظام البعثات العلمية والمنح التعليمية، ليساهم ذلك في تخريج أجيال جديدة من المترجمين والمهتمين بالثقافة الروسية.

وأوضح أن مجالات الابداع والفنون الروسية تستحق الاهتمام والمتابعة والإحتذاء، فحتى في الفترات التي شهدت قمعا فكريا، فإن الأدباء العظام مثل إيليا هيرنبورغ، وباسترناك، وغيرهم قدموا إبداعا إنسانيا فريدا عبر عن التوق للحرية ومقاومة الطغيان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock