رؤى

التصوف ومفهوم الجهاد.. اختلاف وتنافر مع الإسلام السياسي (٣-٤)

لعب الغموض المفاهيمي الذي أصاب الفكر الصوفي فيما يخص مفهومي «الجهاد» و«تطبيق الشريعة الإسلامية» دورًا كبيرًا في بروز بعض التحليلات التي ترجح إمكانية أن تلعب الصوفية بديلًا آمنًا للحركات الإسلامية المتطرفة، لذا نحاول في هذا المقال الإجابة عن سؤال مركب وهو ما هي درجة الارتباط بين الطرق الصوفية ومفاهيم الجهاد وتطبيق الشريعة الإسلامية، وهل من الممكن أن تنتهج الطرق الصوفية نوعًا من العنف السياسي في سبيل تطبيق أهدافها.

بداية.. إذا كان المتصوفة يختلفون عن “الإخوان” وبعض “السلفيين” في عدم وجود عداء مزمن بينهم وبين نظام مبارك، إلا أن هذا النظام لم يكن متقبلا أبدا لفكرة دخول الصوفية إلى الحياة السياسية الطبيعية كمنافس على مقاعد البرلمان وكراسي الحكم، وإنما كان متشبثا باستخدام المتصوفة كرصيد اجتماعي مهم لصالح الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وقتها. وقد أدى موقف السلطة الصارم إلى حرمان المتصوفة من تكوين التنظيمات والمسارات السياسية التي تعبر عنهم، واستسلموا في كل الأحوال إلى إقحام السلطة التنفيذية نفسها في بنيتهم التنظيمية؛ حيث إن المجلس الأعلى للطرق الصوفية يضم ممثلين عن وزارات الداخلية والإعلام والثقافة والتنمية المحلية والأوقاف إلى جانب ممثل للأزهر الشريف.

ومن زاوية التخوف من سيطرة القوى الإسلامية الأخرى على الساحة السياسية والمجال العام، سعى المتصوفة، عقب ثورة يناير ، إلى تكوين حزب سياسي أطلقوا عليه اسم “حزب التحرير المصري” والذي بدأ في ركاب الطريقة العزمية، وقد يضم ممثلين عن طرق صوفية أخرى. والدليل على أن هذا الحزب وُلد من رحم مقارعة الصوفية للأحزاب الإسلامية الأخرى، هو ما جاء على لسان أحد قيادات الحزب وهو الدكتور إبراهيم زهران: “ما من شك أن الطوفان الإسلامي القادم يخيفهم، وأي تحرك سياسي واضح يمثل خروجا عن مسلك الصوفيين المصريين الذين مالوا للإذعان لإرادة القادة السياسيين منذ زمن طويل”.

ويؤكد شيخ الطريقة العزمية علاء أبو العزايم نفسه هذا التصور إذ يقول بشكل أكثر وضوحا: “مساعي جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية للانخراط في العمل السياسي الرسمي تهدد التسامح الديني، وتلزم الصوفيين بأن ينحوا نفس المنحى… في حال تقلد السلفيون أو الإخوان زمام الحكم قد يلغون المشيخة الصوفية، مشيرا إلى أنه ينبغي أن يكون هناك حزب للصوفيين لهذا السبب”.

ومن حديث أبو العزايم يتضح أن دخول المتصوفة للعمل السياسي بمثابة حرب وجود وأن الهدف الرئيس منها مواجهة الإسلام السياسي كنوع من أنواع الدفاع عن النفس، وهنا تكون المواجهة ليست على أساس اجتماعي اقتصادي بل على أساس ديني ففي حديثه لم يتناول برنامج سياسي اجتماعي بينما تحدث عن وجوده المهدد بوجود تيار الإسلام السياسي، ويتضح لنا هنا امكانية ان يتحول الصراع بين الصوفية والإسلام السياسي إلى صراع مسلح لكون المسألة مسألة وجود.

يعني أن الصوفية لم يبادروا إلى التفكير في إنشاء حزب سياسي لهم، وما أقدموا عليه هو رد فعل على قيام الإخوان والسلفيين باتخاذ هذه الخطوة. ويتم هذا في جو مشحون بإلقاء الاتهامات والنبذ والاستهجان المتبادل بين الجانبين؛ ففي الوقت الذي يتهم فيه الصوفيون السلفيين وفقيههم المفضل ابن تيمية بالكفر، وبأنهم يسعون لتأصيل الفكر الوهابي في مصر، يتهم السلفيون الصوفية بارتداء عباءة التشيع، وممارسة طقوس ذات طابع فلكلوري لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. ولم يقتصر الأمر على الأقوال بل امتد إلى الأفعال حين حمّل المتصوفة بعض السلفيين مسؤولية الهجوم على بعض أضرحة الأولياء، وقاموا بتشكيل لجان شعبية لحماية تلك الأضرحة، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام مسجد الحسين رضي الله عنه.

الجهاد في الفكر الصوفي

من بين الاتهامات التي يوجهها تيار الإسلام السياسي للمتصوفة إسقاطهم لفرضية الجهاد في سبيل الله وركونها إلى موالاة الحكام وعدم الانشغال بقضايا المسلمين، إلا أن هذا لم يرقَ للعديد من أقطاب الطرق الصوفية كشيخ الأزهر السابق عبدالحليم محمود، الذي قدم عبر مجموعة من الكتب حول التصوف الإسلامي رؤية الصوفية في مسألة الجهاد، معلنًا أن التصوف الإسلامي كان له العديد من المبادرات التي دعت إلي الجهاد، شارحًا بذلك العديد من إسهامات أقطاب الصوفية في مسألة الجهاد، مثل «شقيق البلخي» و«حاتم الأصم» و«إبراهيم الأدهم» وغيرهم من الأقطاب الصوفية اللامعة.

والجهاد في التجربة الصوفية يختلف عنه في تيار الإسلام السياسي من حيث:

– اختلاف تناول المفهوم في كلا التيارين (الإسلام السياسي والصوفي)، فالجهاد في تيار الإسلام السياسي ارتبط وتلازم مع مفهوم آخر غاية في الأهمية، وهو الحاكمية، فالإسلامويون يدفعون بجاهلية المجتمعات المسلمة وابتعادهم عن الدين الإسلامي، ويدعون إلى أن تكون الحاكمية في البلاد الإسلامية لله وحده، وبذلك يكون الجهاد هو من وسائل تطبيق الحاكمية (أي أن الجهاد هنا موجه في غالبه إلى المجتمعات المسلمة بغية إعادتها لخط الشريعة الإسلامية، كما تدعي الجماعات الإسلامية)، لكن الجهاد في الفكر الصوفي يتشعب إلى العديد من الصور والأشكال، أبرزها الجهاد النفسي ومقاومة اللذات والزهد في الدنيا وآخرها الجهاد القتالي لنصرة دين الله والدفاع عن حرمات المسلمين.

– اختلاف السياق السياسي: يختلف السياق السياسي لنشأة مفهوم الجهاد عند الصوفية عن بقية التيارات الإسلامية، فالجهاد الصوفي -ويقصد هنا الجهاد القتالي- نشأ إما في ظل الفتوحات الإسلامية، وهو ما عبر عنه أبويزيد البسطامي وإبراهيم بن أدهم وحاتم الأصم، وإما في مواجهة الحملات الصليبية، مثل الدور الذي قام به القطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي في موقعة المنصورة إبان الحملة الصليبية السابعة، أو حتى في مواجهة الاستعمار مثل الدور الذي قام به الأمير عبدالقادر الجزائري في مواجهة الاحتلال الفرنسي للجزائر وأيضًا الدور الذي لعبه عمر المختار في مواجهة الاستعمار الإيطالي، لذا نجد أن مفهوم الجهاد عند الصوفية يقترب بشكل كبير إلى مفهوم النضال الوطني، أما السياق السياسي الذي نشأ فيه مفهوم الجهاد عند الجماعات الإسلامية فمختلف تمامًا؛ حيث ارتبط بظاهرة الصراع على السلطة الذي مارسته الجماعات الإسلامية، فمنذ عقد السبعينيات رفعت الجماعات المتطرفة راية الجهاد في وجه الحكومات والمجتمعات المسلمة بغية تطبيق شرع الله، مثل حادث الفنية العسكرية في مصر 1974 الذي يعد أولى العمليات الإرهابية التي تمت تحت راية الجهاد المزعوم، لذا يتضح أن بوصلة الجهاد في الجماعات الإسلامية منحرفة تم توظيفها من أجل تحقيق أغراض سياسية بحتة.

العمل السياسي لدى الصوفية

اتخذت عملية تسيس الصوفية أشكالًا متعددة، منها على سبيل المثال والأكثر شيوعًا هي لعب دور الناصح والناقد للسلطان (أي انخراط قيادات الطرق الصوفية فيما يسمى في الفكر السياسي الإسلامي «أهل الحل والعقد» أو لعب دور الثوري الناقد للأوضاع العامة)، فمثلًا القطب الصوفي البارز سفيان الثوري عاصر اثنين من الخلفاء العباسيين هما: «أبوجعفر المنصور» و«أبوعبد الله المهدي» وكان دائمًا ناقدًا للأوضاع السياسية في الدولة العباسية، رافضًا أن يكون من ضمن زمرة علماء السلطان.

أبو جعفر المنصور
أبو جعفر المنصور

حاول الخليفة «أبوجعفر المنصور» استمالة «سفيان الثوري» بعرض عليه منصب القضاء في الدولة العباسية، فرفض «الثوري»، الأمر الذي أغضب المنصور فأمر بقتله في الحال، إلا أن «الثوري» تراجع في قراره، وطلب من المنصور إمهاله يومًا واحدًا لكي يتولى منصب القضاء، وعندما خرج من عنده لاذ بالفرار، وعاش متخفيًا عن أعين جند «المنصور»، الذي طالب بالقبض عليه حيًّا أو ميتًا، وبعد وفاة المنصور أرسل إليه الخليفة «المهدي» يطالبه بتولي منصب القضاء إلا أنه عاد وكرر رفضه للأمر، ما أغضب الخليفة الجديد الذي كاد أن يأمر بقتل «الثوري» لولا أن ذكره كاتبه بعهد الأمان الممنوح لسفيان الثوري.

الثورة في فكر الصوفي

دفعت المشاركة الرمزية للطرق الصوفية في أحداث 25 يناير 2011 إلى شيوع افتراض ابتعاد الطرق الصوفية عن ممارسة العمل الثوري على عكس جماعة الإخوان، ما وضعها في خط المؤيد لسياسات الرئيس المصري الأسبق «حسني مبارك».

رجح الدكتور “عمار على حسن” في دراسة له بعنوان “الدور السياسي للطرق الصوفية في مصر بعد 25 يناير”، عدم انخراط قطاع كبير من الطرق الصوفية في الثورة المصرية لعاملين رئيسيين هما سيطرة وهيمنة الحكومة على الطرق الصوفية عبر التدخل في تعيين، واختيار القيادات الصوفية مثل اختيار منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وأيضا التوجس الصوفي من صعود التيار السلفي الإخواني الذي دفع الصوفية إلى الاحتماء والتخندق في صفوف النظام السياسي.

مثلما لعب دور التوجس الصوفي من الصعود الإخواني السلفي في إحجام قطاع كبير أيضًا من المشاركة في ثورة 25 يناير كان له أيضًا دور ودافع لمشاركة الطرق الصوفية في ثورة 30 يونيو التي أزاحت الإخوان من سدة الحكم في مصر.

ان الفكر الثوري في الصوفية لم يكن باعثًا على العنف أو الإرهاب، كما هو متعارف عليه في أدبيات الثورات، فالتاريخ المصري على سبيل المثال لم يشهد أي أحداث ثورية عنيفة ارتكبها الصوفيون.

الآخر في الفكر الصوفي

مفهوم الآخر في الأيديولوجيات السياسية والدينية دائمًا باعث على العنف والإرهاب والتطرف، فالآخر هو العدو الذي ينبغي القضاء عليه، فالآخر عن المتطرفين كافر تحل دماؤه وأمواله وعرضه، لذا فنظرة أي فكر للآخر تعد مؤشرًا مهمًّا لقياس عنفه وتطرفه.

لم تنجح الصوفية في بلورة موقف واحد ضد المخالفين لها، فمثلًا نجد تذبذبًا صوفيًّا تجاه الشيعة، فتارة نجد الصوفية تدعم العنف ضدهم وتارة أخرى نجدها تدعم التقارب المذهبي بين الصوفية والشيعة، فمثلًا القطب الصوفي «السيد أحمد البدوي» كان من أبرز داعمي سياسات «الظاهر بيبرس» في محاربة الشيعة.

رغم موقف «البدوي» الداعم لسياسات بيبرس للقضاء علي الشيعة، نجد أن هناك قطبًا صوفيًّا آخر وهو سفيان الثوري من أبرز الدعاة للتقريب بين المذاهب، فدائمًا ما كان يقول «إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبوبكر وعمر»، وذلك لأن الشوام في العصر الأموي دائمًا يعلون قدر أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب، وينالون من «علي بن أبي طالب» وفي المقابل كان الكوفيون يعلون من قدر «علي» وينالون من قدر «أبوبكر وعمر».

ترى السلفية أن الصوفية مبتدعة وضالة، وفي الجانب الآخر نجد أن الصوفية لا تتورع في تكفير السلفيين وتشبيههم بالحروريين (إحدى طوائف الخوارج) كما تبدع شيوخ السلفية مثل ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.

وأخيرًا نستنتج أن الفكر الصوفي طالما كانت له جذور تاريخية متعلقة بالسياسة والجهاد ولم يكن دائمًا زاهدًا في السلطة، لذا ينبغي إجراء عمليات لتحرير المصطلحات الصوفية والبعد قليلًا عن القناعات السائدة حاليًّا.

دخلت الطرق الصوفية في مراحلها المتأخرة حالة الكمون السياسي، الأمر الذي رسخ القناعات الحالية بابتعادها عن الحكم والسياسة والجهاد، أما فيما يخص مسألة العنف والإرهاب فالفكر الصوفي لم يؤدلج لمسألة العنف والإرهاب إلا أن هذا لم يمنع من بعض الممارسات الخارجة على الإطار الصوفي الداعي إلا عدم الامتثال لدعوات العنف.

يتضح من كل ما سبق أن التصوف لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ، فقد صارت مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى الظواهر الاحتفالية، وان كان الفكر الصوفي قدم لنا حالة ثورية “عبد القادر الجزائري” ففي نفس الوقت قدم لنا حالة متخازلة في نفس الفترة ونفس البلد “الطريقة التيجانية”، من هنا نستطيع أن نؤكد على تباين الطرق الصوفية في القضية الواحدة وبالتالي صعوبة بل استحالة ان يعتمد الشارع السياسي على هذه الطرق في مواجهة تيار الإسلام السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock