رؤى

الكتب العشرة المؤسسة للعنف.. “فقه الجهاد”.. بيان تسويغ العمليات الانتحارية (٨) ج٢

في كتابه “مسائل من فقه الجهاد” الشهير ب “فقه الدماء” الذي انتهى من كتابته عام 1425ه – 2004م ؛ يستمر عبد الرحمن العلي أحد أبرز فقهاء العنف الجهادي فى داعش في تأويل آيات القرآن الكريم تأويلا خاصا وشاذا لتبرير التوسع في سفك الدماء وجز الرؤوس، كما يواصل اختيار الفتاوى والأحكام الأكثر تطرفا تحقيقا للهدف ذاته.

عشرون مسألة مضطربة

الكتاب يتضمن عشرين مسألة لم يرجع المؤلف فيها إلي مُؤَلَّفٍ واحد لفقهاء معاصرين. أحدث مُؤَلَّفٍ رجع إليه هو”روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني” ل”شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي” وهو متوفٍّ سنة 1270 ه -1850م ، أي أن ما جري من تأليف وفقه وأحكام بعد هذا التاريخ لم ينظر فيه المؤلف ولم يعتبره ، بالرغم من أن التغيرات التي جرت منذ منتصف القرن التاسع عشر هائلة علي مستوي الإصلاحية الفكرية لمؤلفي النهضة بداية من حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ثم مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذته في الأزهر وخارجه، والطاهر بن عاشور وعلال الفاسي في المغرب العربي والمدرسة المقاصديه التي أرسي قواعدها القرافي والشاطبي من قبل، كما لم يتابع نظر المدرسة الفقهية المصرية ممثلة في الشيخ عبد الوهاب خلاف ومحمد أبو زهرة ومحمود شلتوت.

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

كتب المؤلف علي مُؤَلَّفِهِ أنه “جمع وإعداد”، وهو في الحقيقة لم يزد علي ذلك كما لو كان مستشرقا أو باحثا من خارج عالم الإسلام،، إن لديه عناوين مسبقه يذهب إلي كتب المذاهب الأربعة المعروفه لينتقي منها ويتسقّط ما يغطي هذه العناوين،، العناوين هي الحاكمة وهي نتاج منزع نفسي وفكري ذاتي خاص بالمؤلف ثم هو يجمع ما يمكن أن يدخل تحت تلك العناوين ليقول إن هذه هي “أحكام الدماء” و”فقه الجهاد” وهي أبعد ما تكون عن فلسفة الجهاد في الإسلام،، كان المؤلف في الحقيقة  يريد إعداد دليل إرشادي مثل الذي يعده العسكريون في الحروب بكل ما يعني ذلك من وحشية واستخدام مروّع للقوة بلا حدود،، وكان هذا الدليل موجودا لدي الروس والأمريكيين وبنفس الروح والعقلية. ذهب عبدالرحمن العلي ليضع دليلا إرشاديا مثلهم للدم والعنف والتوحش،، ولكي يعطيه معني مقدسا فإنه ذهب إلي كتب الفقه.

ماذا في عناوين الكتاب؟ ستجد اغتيال الكافر المحارب، العمليات الاستشهادية / الانتحارية، رمي الكفار وقتلهم وقتالهم، أعمال التخريب في أراضي وأملاك ومنشآت العدو، خطف الكفار الحربيين، أحكام المثلة – أي التمثيل بالإنسان مثل قطع أنفه أو أذنه مثلا – قطع رؤوس الكفار المحاربين – حكم الجاسوس من المسلمين،، وهو مشروع ودليل للإرهاب والعنف والوحشية.

العمليات الانتحارية.. أوهام طفولية

المسألة الخامسة في الكتاب وهي المتصلة بالعمليات الاستشهادية، ولأنها مسألة حساسة ولم تُذكر في كتب الفقهاء الأقدمين فإن المؤلف يقول: “العمليات الاستشهادية بصورتها المعاصرة تعد نازلة جديدة لم تُعرف من قبل، غيرأن التأمل في نصوص الشريعة وعدم الجمود علي الظاهر،، يجعلنا نقرر أن العمليات الاستشهادية، وإن لم تُعرف عند علماء الأمة المتقدمين بصورتها اليوم، إلا أنها عُرفت بمعناها وحقيقتها  وجوهرها”، واستخدم  قياس الحاضرعلي الماضي والشاهد علي الغائب واستدل بقواعد مثل “جواز حمل الواحد من المسلمين علي العدد الكثير، ومشروعية إتلاف النفس وإهلاكها لمصلحة إظهار الدين  كما في سورة البروج، ومسألة الترس التي يُقتل فيها مسلمون يتخذهم الأعداء حماية لأنفسهم” (الترس أو التَّترُّس أن يحتمي العدو ويتترَّس بمن يحرم قتله من المسلمين وغيرهم)، فإذا جاز للمجاهد أن يقتل غيره من المسلمين في مسألة الترس توصلا لقتل العدو جاز له من باب أولي قتل نفسه تحقيقا للغرض نفسه مع ما كررناه من أن قتل النفس مشروع في ذاته  لإظهار الدين”،، وهذه مجرد استنتاجات لا تصلح أساسا لأن تُتخذ الأنفس المعصومه المحرمة التي لا يملك الإنسان التصرف فيها لأنها خلق الله،  بمجرد هواه من أجل تحقيق أيديولوجيات معبأة بأوهام  ذات طابع طفولي لا صلة لها بالدين ولا بالشريعة ولا بالعلم ولا بالأصول ولا بقواعد الأحكام والتخريجات الفقهية.

الانتحاريين
الانتحاريين

الدعوة الحكمية .. تبرير لسفك الدماء

يستخدم المؤلف ما أطلق عليه “الدعوة الحكمية” ويقول عنها إنها تتحقق بمجرد سماع الكفار عن الإسلام بأية طريقة كانت”، فالفقهاء يقولون بدعوة الناس قبل قتالهم،، وإنه لا يُقاتل من لم تبلغه دعوة الإسلام ولم يعرف محاسنها،، ومن ثم تقف الدعوة عقبة كأداء أمام تصورات المؤلف المتعطشة للحرب والقتال والدماء، فاخترع مصطلح الدعوة الحكمية، وهو مصطلح لم يستخدمه الفقهاء الذين استدل بأقوالهم إطلاقا، ولكنه عمد إلي قوله تعالي “لأنذركم به ومن بلغ” للاستدلال علي القتال اقتحاما بلا دعوة، ليستدل منه علي عدم وجوب الدعوة قبل القتال، بل إنه استدل بقوله تعالى “وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا” علي عكس مقصودها تماما؛ فالآية تشير إلي أن الله لا يعذب بشرا قبل أن يبعث نبيا بلسانهم  ليقيم الحجة عليهم “رسلا مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس علي الله حجة بعد الرسل”، لكنه يفهم منها وجوب القتال بدون دعوة ويربط بين هذه الآية وقوله تعالى “قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم” ويستنتج أن العذاب العام الوارد في وجوب بعث الرسل يشمل ما ينزله الله بالكفار علي أيدي المؤمنين، ويقول هذا استدلال لطيف، وهو استدلال خبيث لأنه لا علاقة إطلاقا بين الآيتين بل بالعكس الآية الأولي جاءت في سورة الإسراء المكية بينما الآية الثانية جاءت في سورة التوبة المدنية وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم،، وهو نوع من الربط المزاجي والاستنتاج النفسي الذي يوظف الآيات والفقه من أجل أيديولوجيا مدنسة لإضفاء طابع مقدس مصطنع عليها.

“القتال الحكمي” .. توسيع دائرة القتل

استخدم المؤلف نصوص الفقهاء في عكس ما أرادوه وعكس ما أوصي به النبي (صلى الله عليه وسلم) في القتال فالأحاديث متواترة علي النهي عن قتل النساء والصبيان والفلاحين والزمنى وكبار السن والأطفال والقسس والرهبان، وذوي الحالات الخاصة وأصحاب العاهات، والسياح في الجبال أو البلدان، ومن كان في دار أو كنيسة،، هذه هي القاعدة المتوافرة المتواترة، بيد أن المؤلف يخترع ما يُطلق عليه “القتال الحكمي” ليجعل كل خلق الله والعالمين حتى من لم يكن من أهل القتال أو قادرا عليه مقصودا بالقتال ونتائجه؛ فيقول “من شارك في القتال حقيقة أو معنى قُتل أيا كان”،، واستثناء الإسلام من لا يقدر علي القتال ومن لم ينخرط فيه من الذين نطلق عليه اليوم “المدنيين” يؤكد أن القصد من القتال هو الدعوة  وكسر امتناع المقاتلين في ساحات الحروب حين تقع، وليس قتل الناس وإراقة دمائهم بلا معنى، واصطناع مذابح لهم.

تحدث المؤلف عن التحريق بالنار والخطف جوا وبرا وبحرا وقطع رؤوس الكفار المحاربين ونسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم وقتل الجاسوس المستأمن والمسلم لردته وقتل الأسير بالرغم من القدرة عليه وقتل الجمع الغفير والعدد الكثير إذا استسلموا “فقتل الجمع الغفير والعدد الكثير والطائفة من أسري العدو إذا استسلموا لحكم المسلمين”، وعدم جواز الوقوع في الأسر واختيار القتل عليه لأعضاء جماعته  وتنظيمه، أي أن قسوته وتوحشه هي قسوة عامة شاملة لا تستثني حتي أعضاء تنظيمه وجماعته؛ لأنه يري أن انتصار تنظيمه هو الغاية النهائية التي يُضحى فيها بالغالي والنفيس الكافر والمسلم والمدني والمحارب بلا فرق، إن هذا التفكير تجاوز ما نطلق عليه “الإسلام السياسي” ليصبح “القتال المتوحش”.

الدين والنفس .. الاتصال والاتساق

استخدم المؤلف قضية حفظ الدين وأنها مقدمة علي حفظ النفس باعتبار أن الضرورات الخمس هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال،، وأن الفقهاء يستخدمونها كأداة اجتهادية وبحثية للترجيح عند التعارض وأن فهم قضية حفظ الدين لا تقتصر فقط علي تصور انتهاك بيضة الإسلام وعلو كعب النفاق والردة وإنما تقوم علي تصور بيان الدين وإشاعه قيمه والتفسير الصحيح لقيمه والحفاظ علي العقائد والعبادات وغيرها من أصول الإسلام، بل إن الطاهر بن عاشور يُدخل في معني حفظ الدين “ضمان الحريات الدينية” بالمعني المعاصر للمسلمين وغيرهم بما أطلق عليه “حرية الاعتقادات”، أي أن إعمال مبدأ “لا إكراه في الدين”، يحل محل القتال والحرب والتوحش الذي اعتمده المؤلف بحيث إن إيناع الدين الإسلامي ودعوته تكون مع إعمال مبدأ الحرية الدينية وحرية المعتقدات وليس إعلان الحرب علي العالم،، ومن ثم وضع النفس دائما بأنها موضوع للتضحية والاستهانة ودفعها للمهالك والموت وانتهاك عصمتها وحرمتها لتصور أن ذلك سوف يكون حماية للدين وحفظا له،، لا يعكس انتظاما صحيحا لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة التي قُصد منها ترتيب الضرورات والحاجيات والتحسينيات، فحفظ النفس المتيقن بوجودها وبقائها وحياتها مقدم في تقديرنا علي توهم غير متأكد أن العمليات الانتحارية في ديار المسلمين وعالمهم وضد مجتمعاتهم وفي دولهم ستحقق حفظا للدين، ولم يدعنا المؤلف كثيرا حتي أفصح عما يعتبره حفظا للدين بموت الناس والشباب فُرَادَى وجماعات لأجله فقال: فحفظ الدين بالقضاء علي الطاغوت الذي يُعبد الناس له من دون الله، ويسوقهم جميعا نحو الكفر والردة فضلا عما يشيعه من الظلم والفساد مقدم إجماعا – علي غيره من الضروريات الأخري أيا كانت تلك الضروريات”، أي أننا أمام مغامرة هائلة ذات طابع اقتحامي تدعو إلي قتل المسلمين وغيرهم من أجل توهم رمزي للقضاء علي الطاغوت الذي هو معني غامض لا يُعرف بالضبط القصد منه.

داعش وعمليات الاعدام بالذبح
داعش وعمليات الاعدام بالذبح

خاتمة

أصابني الكتاب بالصدمة من هول ما جاء فيه منسوبا للشريعة الإسلامية الغراء المطهرة، إلى حد أنني لم أكن قادرا في أحيان كثيرة علي الاستمرار في القراءة والمطالعة، فكل ما جاء هي آراء للمؤلف تعكس نفسيته وعقله واضطرابه ومعاناته الهائلة التي أمضاها خائفا مهاجرا – كما وصف نفسه – بلا وطن ولا دار ولا استقرار، ولأنه لم يكن يستطيع أن يقول هذه آرائي فلن يصغي إليها أحد؛ فإنه ذهب يضفي عليها طابعا مقدسا باستدعاء أقوال المذاهب الفقهية وشحنها شحنا وفيرا في كل عنوان ومسألة من مسائله العشرين ثم الخروج بما يخالفها تماما وما يخالف مقاصد الإسلام والشريعة التي هي مصلحة للخلق والناس وهداية لهم وتحقيق لخيرهم وسعادتهم .

إن الله الرحيم بعباده أرحم من أن يدع أمرا خلقه بين يدي أمثال المؤلف وتنظيمه وجماعته وهو أعدل من أن يحقق نصرا علي أيديهم،، فنصرهم معناه تحويل حياة من يقع تحت سلطانهم إلي خطر مستطير وشر كبير. دعوا الناس لإسلام الفطرة بعيدا عن تلوينه وتلويثه بمفتريات التنظيمات التي تتخذ من الفوضي والفراغ سبيلا للتمدد والبقاء.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock