رؤى

العقل السلفى وتكفير مبادىء المواطنة

تعد المواطنة إحدى خصائص الدولة المدنية الحديثة لأنها تُلزم الدولة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها على اختلاف أديانهم وأعراقهم ومستوياتهم الاجتماعية، وبهذا المعنى يتم تفادي أي تهديد محتمل من قبل الأغلبية للمساواة المنشودة، فالجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، والمجتمع كله خاضع لحكم القانون لا تمن فيه الأغلبية على الأقلية بحق من الحقوق؛ فالمواطنة – كما يقول د.أحمد زايد – ليست حقاً يُمنح ولكنها استحقاقات يكتسبها البشر كما تنص عليها وثائق حقوق الإنسان العالمية، وهم يكتسبون هذه الاستحقاقات بحكم مشاركتهم في بناء المجتمع واستمراره وتكوين “الأسر والانخراط في صفوف الجيش. ومن شروط هذه المواطنة “الإقامة المشتركة في منطقة جغرافية محددة تعرف بأنها وطن، والإقامة في كنف دولة قومية” (“المواطنة: الهوية الوطنية والمسئولية الاجتماعية” د.أحمد زايد).

المواطنة.. الهوية الوطنية والمسئولية الاجتماعية - د.أحمد زايد
المواطنة.. الهوية الوطنية والمسئولية الاجتماعية – د.أحمد زايد

أزمة العقل السلفى

لا شك في أن الاستحقاقات السابقة التي تقوم عليها المواطنة تعود إلى الخروج من نظام “المُلك” المميز للعصور الوسطى عالمياً وفي تاريخ المجتمعات الإسلامية أيضاً، حيث تفكك نظام الطوائف الذي كان مرتبطاً بهذا النظام ونشأ مفهوم القومية الذي يعتمد على “الأخوة في الوطن”. في التطور الاجتماعي والسياسي المصري، تطور بناء تصور عن “المصري” باعتباره كائنا نموذجيا توجد خصائصه – رغم التنوع – في جميع أفراد الأمة المصرية بجميع ثقافاتهم الفرعية على تنوعها، “ولهذا فإن الدولة القومية الحديثة ” علمانية بعمق.. ليس لأن القومية في حد ذاتها لها موقف سلبي أو إيجابي من الدين، لكن لأن الجماعة القومية تكون قومية بقدر ما تتخيل وحدتها كتجريد نابع منها” (“البحث عن خلاص – أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر”، شريف يونس).

وتكمن أزمة العقل السلفي في مصر في أنه لم يستوعب هذا التحول التاريخي نحو مقومات الدولة الحديثة، وظل متمسكا بالهوية الدينية التي تتجاوز القوميات بتوسعاتها الإمبراطورية التي كانت تناسب العصور الوسطى، وهذا هو ما حلم به الإخوان منذ نشأتهم، فتعاونوا مع الملك – بغرض تحقيق هذا الحلم – ونادوا بإلغاء الأحزاب لحشد طاقات الأمة كلها وراء هذا الهدف المستحيل وهو إقامة إمبراطورية إسلامية – تحت اسم الخلافة – تقوم على الديكتاتورية باسم الإسلام، وقد سارت من خلفهم كل تيارات الاتجاه السلفى التي رأت فى المسيحيين عقبة في طريق تحقيق هذا الحلم، ورأت – كما يقول د.قدرى حنفى – “أن فقدان الوطن أفضل من أن يشاركنا فيه الآخرون” (“العنف بين سلطة الدولة والمجتمع”، قدرى حنفى) وقد زاد من انتشار هذا التوجه هجرة الكثيرين – في حقبة السبعينيات – إلى السعودية وتأثرهم بالفكر الوهابي الذي حاربوا في سبيل فرضه على المجتمع كله وهو ما يجعلهم في عداء دائم مع هذا المجتمع “الجاهلي الكافر” من وجهة نظرهم، وهنا تكمن خطورتهم حين يحاولون فرض رؤيتهم – بالقوة – على المجتمع ككل باعتبارها رؤية دينية لا مجرد رؤية سياسية بشرية، وأن يجعلوا من عاداتهم ومتطلباتهم الأخلاقية عادات ومتطلبات عامة وشرعية ولا يتوقف الأمر – بداهة – عند العادات والمتطلبات الأخلاقية بل يتعدى ذلك إلى رؤيتهم للوطن ونظام الحكم فيه.

العنف بين سلطة الدولة والمجتمع قدري حنفي
العنف بين سلطة الدولة والمجتمع قدري حنفي

الوطن قطعة من الأرض

عندما سئل مرشد الإخوان محمد مهدى عاكف: “هل تقبل أن يحكم مصر حاكم غير مصري بشرط أن يكون مسلما؟” قال “نعم أقبل ذلك” وعندما استنكر الكاتب الصحفي هذه الإجابة قال المرشد: “طظ في مصر”، وبغض النظر عن سوقية التعبير فإن الإخوان والسلفيين يؤمنون بالهوية الإسلامية؛ فالمسلم الأندونيسى – مثلا – أقرب إليهم من المسيحي المصري، والوطن عندهم مجرد قطعة أرض، فها هو ياسر البرهامي يرى أن “الإنسان يعيش لله ويموت لله – سبحانه وتعالى – وليس يعيش لقطعة أرض مخلوقة يطأ عليها.. فكيف يكون دَمُنا ورُوحُنا فداء لها؟” (نقلا عن “لكم سلفكم ولى سلفي” خالد منتصر).

ولنا أن نتساءل إذا كان الوطن بمثل هذا الهوان، فلماذا يقاتلون أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ولماذا يرفضون مشاركتهم في الجيش، يقول البرهامي في “فقه الجهاد”: “لقد ظهرت بدع جديدة من إنكار وجوب قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية بل وتسمية الجزية ضريبة خدمة عسكرية تسقط إذا شاركونا القتال ويسعى هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصحاب الاتجاه الإسلامي المستنير إلى تعميم هذا المفهوم المنحرف لقضية الجهاد فضلا عن إنكار جهاد الطلب، وهذا خرق للإجماع بل لو أن طائفة استقر أمرُها على ذلك لصارت طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها (نقلا عن “لكم سلفكم ولي سلفي”). الجزية إذن لا تسقط لأنه – كما يقول البرهامي أيضا – “لايجوز أن يكون غير المسلم قائدا للجيش أو قاضيا ولا يشارك في القتال”.

برهامي والحويني
برهامي والحويني

ويؤكد أبو إسحاق الحويني الرؤية ذاتها في شريط “الولاء والبراء” حين يقول عن الجزية: “يجب أن يدفعها المسيحي وهو مدلدل ودانه” لأنهم “ليسوا إخواننا وهذه الكلمة حرام”، أما عن تهنئتهم في أعيادهم فهم يرونها إقرارا على “إقامة العيد البدعي والشركي”، ويستنكر البرهامي مشاركة كثير من الاتجاهات المنحرفة – من وجهة نظره – المنتسبة إلى العمل الإسلامي للكفار في أعيادهم وإرسال وفود للتهنئة بأعياد الكفار وشهادة ما يسمونه قداسا. يقول: “فلا شك في أن كل من حضر قد تنجس” ويرجع كل هذا إلى رؤيته للوطن – الذى رآه من قبل مجرد قطعة من الأرض – على أنه بلاد الإسلام، وعليه فلا ينبغى لغير المسلم أن يكون عزيزا فيها وألا نبدأه بالتحية لأن ذلك إعظام وتكريم له. على أنه ينبعي أن نقول إن البرهامي وغيره يستندون في آرائهم على تراث فقهي طويل هو الأولى بالمواجهة والرفض؛ فلسنا بحاجة إلى فتاوى تنتمي إلى العصور الوسطى لكى تتحكم في حاضرنا ومستقبلنا.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock