ثقافة

الشاعر العديسي: أكتب ببساطة دون أن أتخلى عن العمق

العديسي واحد من ضمن طابور طويل من مبدعي الجنوب الذي أضيف إلى مبدعيه،  يطرح لغة مغايرة عن ما هو سائد في المشهد الشعري المصري عبر دوواينه الشعرية “يقف احتراما لسيدة تمر”، “كيف حالك جدا”، “أموت ليظل أسمها سرا”، والتي تمتاز بكونها ابنة بيئتها، قد تغريك وتثيرك وتدهشك بخفة وبساطة المفردة وما تحملة من تعدد في تأويلها، ولا يمكن لقاريء العديسي إلا أن يبتسم كلما قرأ نصه لا لشيء سوى أن ما تحمله نصوصة من مزاج يبدو في السطح ساخرا، وفى العمق ستجد ما يعنيه تماما.

في هذا الحوار محاولة للاقتراب من تجربة الشاعر الجنوبي العديسي.

بداية حدثنا عن النشاة في جنوب الصعيد وماذا يعني لك ان تكون جنوبي ؟

يقول العديسي “أن تنشأ في صعيد مصر، خاصة في محافظات الجنوب، يعني أن تعتني بالكلمة، تهذبها، تربيها، وتجعل تنشئتها صالحة، البعض يربي البهائم لتساعده على المعيشة، والبعض يربي الأبناء لتسنده وتقوي ظهره، لكن الجميع بلا استثناء في الصعيد عليه أن يربي الكلمة.”

ويؤكد صاحب “كيف حالك جدا” على أن الكلمة هي السمعة، هي الصيت، هي المعرفة، والاحترام، والتقدير.. بها ترتفع وتكون في مصاف الكبار، ويكون مجلسك في صدارة المنادر والجلسات، وبها أيضا تنخفض رتبتك وتصبح مهمشا.

لا أعتقد أن هناك من يعرفون قدرها مثلهم، تجدها في أغنياتهم وفنونهم، وفي عديد الموت، وفي حداء الجمال، وأغاني الحصاد، في الأفراح كما في الأتراح.. الكلمة هي المعبر دائما، هي النشيد وهي الحياة.. في هكذا مجتمع يظهر الشعراء، ويظهر المداحون، وحفظة القرآن.. فليس غريبا أن يكون الشعر غوايتي؛ لأنني في الأصل ابن الكلمة في الصعيد.

الطبيعة

تبدو النشاة في الجنوب بكل مافيها من مفردات القبيلة انها اعطت لك فرصة الاختلاف على ما هو سائد ومطروح في تقديم نصك سواء بالعامية أو عبر قصيدة النثر؟

ربما بسبب القبلية، وربما بسبب الحياة الوعرة، والمساحات الشاسعة الغير مأهولة، يجد الصعيدي نفسه في مواجهة الطبيعة، بلا معين سوى ذويه، ينشأ دائما في صراع معها، في عراك دائم، ولابد له أن ينتصر، لأن الهزيمة في مواجهتها تعني الموت، وضياع أسرته. لذلك فإن صراعه معها لا يقبل المهادنة، لكن حدته تخفت بمجرد أن يروض الصعيدي الطبيعة، ومن ثم تسير حياته بالتوازي معها، جنبا إلى جنب، تتحول هذه العلاقة في كثير من الأحيان إلى التعاون، والتكافل أحيانا أخرى، يعينها وتساعده، يصلح شأنها وتمده بما يضمن له الحياة.. لكل هذا تأخذ الطبيعة أحيانا كثيرة شكل الصديق والصاحب والقريب.. وهو ما يطلق عليه المنظرون “أنسنة الطبيعة”.

يبدو للمتابع  لسيرتك الشعرية ان ثمة تلاقي ما مع شاعر القصة  يحيي الطاهر عبد الله ؟

لا شك ان يحىي كاتب عظيم، وانا اعتبره شاعر وليس قاص، لأن لغته شفيفة وغنائية وتحمل صفات الأغاني العظيمة، مؤكد ان نشأت كلا منا في بيئة واحدة، اضفى بعض الصفات في استقاء الحياة، والتعامل مع تقاليد الحياة العتيقة، ما بين الكرنك والعديسات مسافة 30 كيلو، ما يعني ان الثقافة واحدة، هو اختار التعبير بالقصة الغنائية والصاخبة احيانا، في حين اعبر انا بالشعر الهادئ.

هو كاتب عظيم وأنا أحبه، وأعود له كل فترة وأخرى لاستمتع بهذه اللغة الجميلة، الذي ادرك هو تفوقه فيها، فغناها.

يحيي الطاهر عبد الله
يحيي الطاهر عبد الله

من الواضح انك تاخذ مسافة في إنشاد شعرك على عكس ما فعله يحيي الطاهر عبد الله مع القصة ؟

حينها كان لدى الناس الوقت لتنصت، الآن الامر يختلف، نحن في عصر السرعة، لا احد لديه الوقت ليقرأ قصيدة، فما بالك بسماعها؟!

نحن نكتب وندرك ان آليات العصر الذي نعيشه، تحتاج لطرق أخري غير التي كانت.

الآن انت في سباق، ليس مع زميلك الشاعر، لكن مع السرعة، مع التكنولوجيا، فكيف وسط كل هذا ان تكتب نص يقرأ؟ هذا هو الأمر

ماذا عن قصيدة النثر؟

بدأت بكتابة قصيدة العامية، وأصدرت ديوانين الأول “قبلي النجع” و “بابتسامة ندل بيموت”.. وبعد فترة اكتشفت أن الكتابة بهذه الطريقة استنفذت الأغراض التي من أجلها كتبتها، فقررت الخروج إلى أفق أرحب، أفق غير محدود، لا تغلق عليه أوزان أو قوافي.

لا شك أن العالم الآن بمثابة قرية صغير، إذا تحدثت هنا يمكن أن يتردد صدى الكلمة هناك، فلماذا لا أطلق لكلمتي العنان؟

لماذا لا أحررها أكثر؟.. ولتذهب أين شاءت، دون أن تمنعها لغة أو أي حاجز.

أنا أكتب الفكرة، وهي المتحدث الحقيقي عن الفن، والأفكار تطير، هكذا بكل بساطة ، لا يهمني أين سترسو، ما يهمني حقيقة هو أن تطير، ولتستقر أينما يحلو لها.

الشعر

يلفت العديسي إلى أن من حق أي شاعر أو أديب أن يجرب، من حقه أن يختار الطريقة أو الأسلوب الذي يعبر به عن نفسه، لكن خلال الفترة السابقة تناسى الكتاب وبوجه أدق الشعراء، وجود القارئ، أو المتلقي، فنتج عن ذلك نص غير مكتمل، لأن ينقصه ضلع مهم، وهو القارئ ذاته.. فكان هناك الشاعر، وكان هناك النص، لكن لم يكن هناك من يتلقاه، ومن ثم غاب الوعاء الحافظ له، والناقل التاريخي، فانزوى النص في ركن مجهول، وتبعه الشاعر في الغياب، لأن نصه لم يكتب له الحفظ.

لذا هي معادلة صعبة.. كيف تكتب البساطة، دون أن تتخلى عن العمق، أو القيمة، دون أن تتناسى الدهشة.. أحاول أن أفعل هذا، البعض يرى أن نصوصي نجحت بشكل أو بآخر في ذلك، لكنني أرى أن أمامي طريق طويل لأصل إلى مبتغاي.

المؤسسة الثقافية

يبدو المتابع لسيرة الشاعر والكاتب الصحفي أن ثمة خلافا مع المؤسسة الثقافية واضحا من انتقاداتك الحادة إلى مدي ترى يجب ان تكون المسافة بين المثقف والمؤسسة الثقافية “السلطة الثقافية “؟

لا أنتمي إلى أية مؤسسة ثقافية، سواء حكومية أو خاصة، لأني أدرك أن الشعر لا يمكن احتوائه في كيانات منظمة، الشعر مثل الهواء يطير، ويتواجد أينما تواجدت الحياة، الشعر تخنقه المكاتب، وتقتله الأوامر، خلق الشعر حرا، لذا سيظل عصيا على الاحتواء.

أدرك أيضا أن الشاعر طالما قبل طائعا الدخول في إطار مؤسسة ما، ستسري بالتالي قوانينها عليه.. وأنا لا أحب المؤسسات، ولا أريد أن اخضع لقوانين مؤسسة ما.

ويضيف العديسي أنا لست مادة ليكتشفني أحدهم أو يقدمني، وهو جالس خلف مكتبه العتيق، أنا المبرر الذي يجعل هذا الموظف يستمر في مكانه ومنصبه، لكنني لا أهتم، لذا ليس لي شأن بالمؤسسة الثقافية، ولن يكون.

لا أحتاج لمؤسسات، ولا أريد لصاحب المنصب فيها أن يكافئني لأنني شاعر جيد، مكافأتي هي الشعر ذاته.. الشعر الذي سيجعلني باقيا، فيما ينزوي هذا الموظف خلف ستائر النسيان.

مشوارك مع الشعر- يبدو أن ثلاثة دواوين شعرية غير معبرة لمسيرتك مع كتابة الشعر..

أصدرت ثلاثة دواوين في قصيدة النثر، أولهم “يقف احتراما لسيدة تمر”، وثانيهم “أموت ليظل اسمها سرا”، والثالث هو “كيف حالك جدا”، وحاليا أجهز طبعة مزيدة ومنقحة من الديوان الثاني مع دار “بن دريم” وستكون بعنوان “كقاطع طريق.. أموت ليظل اسمها سرا”.

كيف حالك جدا سيد العديسي
كيف حالك جدا سيد العديسي

ويلفت العديسي إلى أن البعض يعتبر نص “كيف حالك جدا” أيقونة شعرية، ربما، وأعتقد أن هذا يرجع لأن النص عالج جانبا اجتماعيا، كما أنه محرض.. انا لا أعتبره أفضل نصوصي، لكن مضطر دائما للإنصياع لرغبة القارئ، لأنه هو في الأساس القائم بعملية النقل التاريخية، هو الوعاء الذي يحفظ النصوص وليس الكتب، هو الذي يوصله للأجيال اللاحقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock