ثقافة

طه حسين: الوجه الآخر

ملكٌ أم كتابة؟ تساءل أمل دُنقل في إحدى روائعه، لينتهي إلى انتصار الكتابة على السياسة.

مات الشاعر أحمد شوقي وهو يحُلم بلقب باشا، ورحل مبدعون وهُم يطاردون طموحا لا يأتي بالحصول على منصب سياسي، لكن بقى أدبهم خالدا إلى الدهر وظل ذكرهم أقوى من أصحاب مناصب ونفوذ زائلة.

أحمد شوقي
أحمد شوقي

لكن يبقى طه حسين نموذج للأديب السياسي الذي انتصر لديه الأدب على السياسة، فلم يذكر الناس عنه كونه وزيرا للمعارف، وإنما عميدا للأدب العربي.

لقد غاب طه حسين الوزير، وبقى طه حسين الأديب. رحل السياسي، وعاش الكاتب. نُسي المسئول، وخلُد ذكر صاحب القلم.

كانت تجربة الدكتور طه حسين المولود في يوم 15 نوفمبر سنة 1889 والراحل في 28 أكتوبر سنة 1973 في عالم السياسة غريبة، فقد ظل الرجل حتى سن الستين من عمره مبتعدا تماما عن أي منصب سياسي، وبدا أقرب للتيار الإشتراكي منه لأي تيار آخر.

وكان الرجل بما يمثله من معجزة عظيمة لرجل كفيف يُحسن تعليمه ويتفوق على أقرانه، ويُصبح الأول في مضمار الأدب والفكر في زمانه، يعرف يقينا أنه منبوذ من السلطة، بسبب كتاباته وآراءه الداعمة للفقراء في ظل مد اشتراكي ساد المجتمع المصري طوال الأربعينيات واتسع مداه بعد أفول الحرب العالمية الثانية. كان الرجل يُدرك أنه مغضوب عليه لا محالة، يُثير اسمه غضب الكبار إذا ذّكر، ولكنه لم يكن يُبالي. فرغم ذلك، فقد سعى إليه الوفد ـ حزب الأغلبية ـ عندما فاز في الانتخابات سنة 1950 ودُعي إلى تشكيل الوزارة، ووصله العرض من مصطفى النحاس باشا نفسه ليُصبح وزيرا للمعارف (التعليم).

طه حسين ومصطفى النحاس
طه حسين ومصطفى النحاس

تتعدد الحكايات التي تروي واقعة استوزاره، وتتشابه، لكنها تُجمع أن مصطفى النحاس كان مُصرا عليه، وأنه لم يقبل اعتراض القصر الملكي أبدا، وأنه كان مُقتنعا بأنه الوزير الأنسب رغم أنه خارج حزب الوفد.

وفي تحليلي، أتصور أن مصطفى النحاس بهذا الاختيار، وذلك الاصرار، ضرب عدة عصافير بحجر واحد، أولها أن الوفد كان يواجه حملة شبه مُمنهجة تحاول النيل من شعبيته إعتمادا على القول بتحوله إلى حزب لكبار الملاك من أمثال فؤاد سراج الدين، وآل الوكيل، وكان تعيين طه حسين، مناصر المعذبين في الأرض، والداعي إلى الإشتراكية بمثابة كسر لذلك التوجه، ونفي للتُهمة الزائفة.

كذلك، فإن طه حسين لم يكن محسوبا على أي تيار سياسي، وكان على عداء واضح مع القصر، ما يعني أن اختياره بمثابة رد اعتبار لقوة الوفد في مواجهة الملك بعد غدره بحكومة الوفد السابقة.

فضلا عن ذلك، فإن الرجل كان لديه مشروع حقيقي يخُص التعليم ويقوم على إتاحته مجانا حتى نهاية التعليم الثانوي، وهو ما يُمثل إنجازا تاريخيا لحكومة الوفد، التي رأت ضرورة تقديم مكاسب حقيقية ومباشرة للفقراء في ظل اتساع التفاوت الطبقي.

ويُمكن أن يُضاف لذلك أن الحنكة السياسية للنحاس، كانت تدفعه للإستعانة بشخوص عامة مقبولة إجتماعيا من خارج الوفد كرسالة للوفديين أنفسهم بأن الوفد يتسع لأطياف الأمة كلها، وأنه لا يقوم على فرد بعينه.

طه حسين في مكتبه في وزارة المعارف
طه حسين في مكتبه في وزارة المعارف

وتحضرني حكاية طريفة رواها لي قبل أكثر من عشرين عاما المرحوم سعد فخري عبد النور القيادي الوفدي الراحل(وهو عم منير فخري عبد النور وزير السياحة والتجارة الأسبق)، مفادها أن طه حسين هو صاحب أقصر خطبة سياسية في تاريخ مصر الحديث، عندما اختير وزيرا في حكومة الوفد. في اليوم الأول للحكومة، وأمام مجلس الوزراء احتشد الآلاف يهتفون لمصر وللوفد، وكان طه حسين مُطلا من الشرفة فطلب إليه الناس أن يُلقى كلمة للتعبير عن عودة حزب الأغلبية للحُكم بعد ابعاد لسنوات. ولم يكُن أمام الرجل سوى الإستجابة لمطالب الجماهير، لكن بديهيته الحاضرة دفعته أن يقف ويخطب في الناس بكلمتين فقط ارتجت لهما الأرض تصفيقا وتهليلا.

كانت الكلمتان بليغتان ومعبّرتان عن كل ما يتصوره أنصار الوفد وخصومه على السواء. قال الرجل : “عُدنا فعُدتم ” . ولاشك أن تلك الخُطبة البليغة تنطبق على أكثرمن معنى. منها مثلا أننا عُدنا نحن زُعماء الآمة وممثلوها، فعادت إرادة الشعب مرة أخرى، لكنها تحتمل في الوقت ذاته أننا عُدنا حكاما فُعدتم مُصفقين أو عُدنا أصحاب نفوذ فعُدتم مؤيدين، ومُنافقين.

كان الرجل مؤمناً أنَّ برنامجه لجعل التعليم كالماء والهواء يحتاج حكومة شعبية تستمد قوتها من الناس، لذا فقد قدم فكرته لعمل مجانية التعليم الأساسى ونفذها وصدرت كإحدى الخطوات الهامة في تاريخ التعليم الحديث، وهي التي طورها نظام يوليو فيما بعد فمدوا المجانية حتى نهاية التعليم الجامعي، واعتبروها إحدى مكتسبات الثورة الخالدة.

وكان طه حسين السياسي، لاذعا وساخرا ومُستعليا على المنصب، ولم يضبطه أحد مُنافقا لجلالة الملك، أو مستعطفا له، أو مُشيدا بحكمته وفراسته وحب الناس، كما فعل عباس محمود العقاد في مقال شهير له، نُشر بمجلة الهلال مطلع الأربعينات. لم يفرح طه حسين بمنصب الوزيرعندما جاءه ـ كما كتب بعد ذلك ـ ولم يحزن لضياعه بعد إقالة حكومة الوفد في يناير 1952.

وبقى طه حسين قريبا من النحاس باشا، الذي كان يشعر بأنه أطيب وأنزه الساسة في البلاد، وظلت علاقته ممتدة معه، حتى بعد إلغاء الأحزاب تماما في يناير سنة 1953، وعلى رأسها الوفد المصري وتأييد طه حسين للحركة المباركة، خاصة أنها تقف على الأرضية الإشتراكية ذاتها التي يقف عليها.

ونلمح في مذكرات النحاس باشا التي أملاها على سكرتيره محمد كامل البنا، ونشرت سنة 2000 بتحقيق الكاتب السياسي أحمد عز الدين، محاولة من طه حسين الأميل إلى نظام عبد الناصر للتقريب بين زعيم الوفد، المُحدد إقامته ونظام الحكم. ونقرأ على لسان النحاس أن طه حسين زاره سنة 1962(قبل وفاة النحاس بثلاثة سنوات)، زاره وقال له إنه يحمل رسالة شخصية من الرئيس  جمال عبد الناصر إليه مفادها أنه لم  يتعرض له، ولم يسىء إلى مكانته ولم يحاكمه، لكنه يراه معرضا عنه ولا يؤيده، وكانت مفاجأة أن يرد النحاس باشا عليه بأنه لم يحاكمه، لكنه ليته فعل ولم يتعرض لزوجته التى تحمل اسمه ولم يقدمها للمحاكمة بتهم واهية وأدلة كاذبة وجعل الجلسة سرية ولم يسمح للمحامين بحضورها ولا نشرها. وأضاف “النحاس”  قائلا لطه حسين: إن عبد الناصر لم يتعفف عن الصاق التهم بسيدة مهيضة الجناح ويحاكمها ويصدر عليها أحكاما بمصادرة ما تملك دون دليل أو برهان إلا الشائعات وأشياء اقتبسوها من الخصوم والأعداء ونقلوها بلا تصرف ولا عقل ولا مراعاة لكرامة أو أخلاق. وهكذا فشلت وساطة طه حسين مع النحاس الذي اختار الزهد في كل شئ حتى لقى ربه في أغسطس 1965.

وظل طه حسين أمينا لمبادئه، مترفعا عن الصغائر، مُتحيزا للطبقات الكادحة، مُعبرا عنهم، وشاء القدر أن يرحل عن دُنيانا بعد أيام من عبور الجيش المصري إلى سيناء وانتصار مصر على اسرائيل.

وكتب الشاعر نزار قباني في رثائه قصيدة عمودية قال فيها “ضوء عينيك أم هما نجمتان/ كلهم لا يرى وأنت ترانى/ يا أمير الحروف ها هى مصر/ وردة تستحم فى شريانى/ ارمِ نظارتيك ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock