رؤى

ثورة الموريسكيين العرب.. مولاي عبد الله “إعدام ميت”

بعد أن تمكن القائد محمد بن أمية من توحيد صفوف المسلمين الموريسكيين، وكون جيشا شعبيا وأعلن الثورة على اضطهاد الإسبان لشعبه، وقاد حرب عصابات ضد القوات القشتالية في جبال البشرات، تم اغتياله على يد عدد من المرتزقة الأتراك الذين التحقوا بجيشه.

اجتمع قادة وزعماء الثورة واقترحوا مبايعة القائد ابن عبو ملكا على الأندلس، فوافق معظمهم شريطة موافقة أمير أمراء الجزائر، فوصلت موافقة هذا الأخير مع بعض التعزيزات العسكرية بعد ثلاثة شهور، فنصب ابن عبو سلطانا للأندلس تحت اسم مولاي عبد الله محمد بن عبو، وقد انضم إلى الثورة في ذلك الوقت ما يقرب من ثلاثين ألف مقاتل.

أعاد ابن عبو فور مبايعته، تنظيم جيش الثورة، واستقدم السلاح والذخيرة من موانئ المغرب والجزائر، ثم نظم جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل واتجه بهم لحصار مدينة أرجبة وقلعتها أواخر شهر أكتوبر سنة 1569 بعد محاولات فاشلة لاقتحام أسوارها، فطلب قائد حاميتها النجدة من حاكم غرناطة الجديد الدون خوان النمساوي شقيق الملك فيليب، فأنجده بقوة تحت قيادة دوق دي سياسة، لم تفلح هذه القوة في فك حصار الثوار الذين قطعوا الطريق إليها في لاجرون، فنجح الموريسكيون في تحرير أرجبة ثم حرروا جليرة وهي قلعة ذات موقع استراتيجي فأتت من أشكر قوات مساندة لجيش دوق دي سياسة فهزمهم الثوار في معركة عنيفة.

استتبت الأمور لابن عبو الذي انتشر سلطانه إلى مناطق مالقة ورندة وكثرت هجماته على مرج غرناطة، وفي أوائل نوفمبر عام 1569، حررت قوة من جيش الثورة بقيادة خريمينو بن المليح حصن أرية بعد معركة عنيفة، إذ كانت حامية أرية الإسبانية تغير على قرى المسلمين المجاورة لها خاصة منتربة.

مولاي عبد الله محمد بن عبو
مولاي عبد الله محمد بن عبو

الدون خوان ومذبحة جليرة

ولما رأى الدون خوان اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج في أواخر ديسمبر على رأسي جيشه، وسار صوب وادي آش، وحاصر قلعة بلدة جليرة، وكان يدافع عنها نحو ثلاثة آلاف موريسكي، فهاجمها الإسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدة، فسقطت في أيديهم في فبراير من عام 1570 بعد مواقع هائلة أبدى فيها الموريسكيون والموريسكيات اعظم ضروب البسالة، وقتل فيها عدة من أكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الإسبان دخول الضواري المفترسة وقتلوا كل من فيها، حتى النساء والأطفال، وكانت مذبحة بشعة، بحسب ما ذكر المؤرخ محمد عبد الله عنان في موسوعته «دولة الإسلام في الأندلس”.

توغل الدون خوان بعد ذلك في شعب الجبال حتى سيدون الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هنالك قوة أخرى من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى الحبقي تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الإسبان في سيدون ومزقت بعض سراياهم، وأوقعت الرعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم أعداد كبيرة، ولم يستطع الدون خوان أن يعيد ترتيب صفوفه إلا بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره حتى وصل إلى اندرش في مايو سنة 1570.

وخوفا من رد فعل الموريسكيين على المجازر التي ارتكبها الجيش الإسباني، أرسل الدون خوان رسله إلى القائد الحقبي يفاتحه في أمر الصلح، واستصدر أمرا ملكيا بوعد يشمل عفو تام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلان هذا الأمر، ولهم أن يقدموا تظلماتهم فتبحث بعناية، وتضمن الأمر الملكي بندا ينص على أن كل من يرفض الخضوع ماعدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، يحكم عليه بالموت.

لم يصغ إلى نداء الخضوع أحد، فقد أيقن الموريسكيون أن إسبانيا لا عهد لها ولا ذمة وأن حكمها ينقضون عهودهم ولهم في ذلك تجارب سابقة، وأمام هذا الرفض عاد الدون خوان إلى استئناف القتال والمطاردة، وانقضت القوات القشتالية على الموريسكيين محاربين ومسالمين يمعنون فيهم القتل والأسر.

الدون خوان
الدون خوان

خضوع الحبقي

وسارت قوة بقيادة دوق سيزا إلى شمال البشرات واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في عدة معارك غير حاسمة وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي، وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهم الموقف ورأى اتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعا، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شئ، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوة القاهرة، واتفق المفاوضون على أن يتقدم الحبقي إلى الدون خوان بإعلان خضوعه وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الإسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت إقامتهم، وفي ذات مساء سار الحبقي في سرية من فرنسا إلى معسكر الدون في اندرش وقدم له الخضوع وحصل على العفو المنشود.

لم يرض هذا الصلح الموريسكيين وزعمائهم وعلى رأسهم مولاي عبد الله، فقد فطنوا إلى أن إسبانيا تخطط إلى نفيهم وتشريدهم عن أوطانهم، «ففيم كانت الثورة إذاً، وفيم كان النضال؟ لقد ثار الموريسكيون لأن إسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي؛ إذ رآه يروج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعو إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه إلى معسكره بالحيلة؛ وهنالك أعدمه سراً» يضيف عنان في موسوعته.

وبعد أسابيع، بعث الدون خوان رسوله إلى مولاي عبد الله يعرض عليه الخضوع، فأخبره قائد الثورة أنه سيترك الموريسكيين أحراراً في تصرفهم، لكنه هو يأبى الخضوع ما بقي فيه رمق ينبض، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه على أن يحصل على ملك أسبانيا بأسره.

وكان مولاي عبد الله قد تلقى العون والإمدادات من المغرب في ذلك الوقت فاشتد بها أزره، وقرر الاستمرار في الثورة، واشتعل الموقف حول مدينة رندة، وبعث مولاي عبد الله شقيقه الغالب لقيادة المقاتلين هناك، وهو ما استفز الإسبان فقرروا سحق الثوار بكل ما يملكون، وتحرك الدون خوان بقواته إلى ودي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دوق ركيصانص إلى شمال البشرات، وجيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الإسبان في طريقهم كل شئ وأمعنت قواتهم في التقتيل والتخريب، ولم تتمكن السرايا الموريسكية من وقف هذا الزحف الثلاثي وسقطت تباعا، وهدم القوات الإسبانية الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدر للقوت.

وأمام تلك القوات الحاشدة انهارت جيوش الموريسكيين، وفر الآلاف منهم إلى شمال إفريقيا، ولم يبقى سوى مولاي عبد الله وعدد قليل من قواته يحتمون بالجبال، وفي تلك الأثناء أصدر الملك فيليب الثاني قرارا بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد، ومصادرة أملاكهم العقارية وترك أملاكهم المنقولة يتصرفون فيها،ونفذت القوات القشتالية القرار الجديد بمنتهى الصرامة، وجُمع الموريسكيون في الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند في كل مكان، ونزعوا أراضيهم، وشتتوا داخل الأقاليم الإسبانية، وبذلك انهار المجتمع الموريسكي في مملكة غرناطة.

غرناطة
غرناطة

انهيار الثورة.. وإعدام ميت

ظل مولاي عبد الله محتميا في الجبال وسط ما تبقى من قواته، ووصلته أخبار القتل والتشريد، وبدأ الأمل في انتصار الثورة أو حتى صلح يحفظ الكرامة يتبدد مع مرور الوقت، وفي مارس سنة 1571 كشف بعض الأسرى سر مخبئه للإسبان فأوفدوا رسلهم إلى معسكره وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى الزنيش أغدقوا عليه المال، ووعدوه بأنه لو تمكن من تسليم قائده حياً أو ميتاً فسيحصل على عفو شامل.

دبر الضابط الخائن خطة لاغتيال مولاي عبد الله، وذات يوم فاجأه مع عدد من رجاله، قاوم القائد حتى سقط في النهاية بعد أن أثقلته الجراح، فحمل الخونة جثمانه إلى غرناطة؛ وهناك رتب الإسبان موكباً ووضعوا الجثمان على ظهر بغل، ثم حُمل إلى النطع وأُجري فيه حكم الإعدام، قطعوا الرأس ثم طاف الجنود الإسبان بالجثمان شوارع غرناطة ومثلوا به وبعد ذلك أحرقوه في الميدان الكبير.

وبذلك انهارت الثورة المويسكية، وطُويت صفحة من صفحات النضال، بعدها عاش الموريسكيون حياة الاستكانة لا يُسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل العبودية.

وبالرغم من تسليم الشعب الموريسكي الأعزل بالهزيمة، ألا أن حكام إسبانيا ومن خلفهم الكنيسة قرروا المضي قدما في عمليات الاضطهاد الجماعي، وعادت عمليات إكراه المسلمين إلى التحول للمسيحية تحت إشراف الكنيسة، وغدا العرب المسلمون يشهدون القداسات ويتكلمون القشتالية.

لم يتوقف الأمر عند ذلك ولم يرض الإسبان بهذا الخضوع، ففي عهد فيليب الثالث صدر قرار عام 1609 بنفي الموريسكيين أو العرب الذين تحولوا كرها إلى المسيحية من إسبانيا، وإخراجهم نهائياً من جميع المدن، وحشدت السفن لنقل من كان منهم في الثغور إلى إفريقيا، ونزح سكان الشمال منهم إلى فرنسا حيث استقروا في لانجدوك وجويان.

وبذلك انتهى الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين وطويت صفحة شعب بأكمله، فيما وصف بأنها أشهر عملية تطهير عرقي في تاريخ البشرية.

المراجع:

موسوعة «دولة الإسلام في الأندلس» للمؤرخ محمد عبد الله عنان

حلقات «الصراع الأخير بين الموريسكيين وإسبانيا» – مجلة الرسالة للمؤرخ محمد عبد الله عنان أعداد من 204 – 206 .

دراسة «حياة الموريسكيين الدينية» موقع المعرفة الأندلسية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock