رؤى

أسئلة النهوض العربي مجددا

يبدو العرب اليوم وقد عجزوا عن تحقيق النهضة المؤملة والمرجوة من النهضويين الذين طرحوا أسئلة وشروط النهوض العربي، وأهم تلك الشروط هو تحقيق استقلال العرب والتحرر من التبعية للأجنبي المستعمر الذي اكتسح بجيوشه وخيوله العالم العربي منذ الثلث الأول من القرن  التاسع عشر، من الجزائر وحتى مصر وليبيا والمغرب العربي ومشرق العالم العربي أيضا، وهو ما عكس الوجه الآخر للحضارة الغربية في علاقتها مع العالم العربي وطرح سؤال الاستقلال والتحرر من الاستعمار والتبعية للغرب وللأجنبي.

وبينما كان النهضويون العرب في مطلع القرن التاسع عشر ينظرون للغرب باعتباره أيقونة حضارية مذهلة في نمط حياته وسيرته مع مواطنيه في مختلف مجالات الحياة في الفن والعمران والنظام الاجتماعي، خاصة وضع  المرأة وطبيعة النظم السياسية التي تنزع إلى سلطات واسعة للشعب في مواجهة الحكام، والعلاقة مع امتلاك أدوات التقدم العلمي وطريقة التفكير التي تنتج حلولا لمشاكل المجتمعات وجعل حياتها أكثر يسرا وسعادة.. كان سؤال النهضة العربي قبل أن ينصرم ذلك القرن هو كيف يمكن تحقيق التقدم، وامتلاك أسباب العلم التي تعيد للعرب قوتهم في مواجهة ما بدا أنه استخدام الغرب لعلومه العسكرية وجيوشه لتهديد بلدان العرب والمسلمين.

 النهضويون العرب في بداية القرن التاسع عشر مثل رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)، وخير الدين التونسي (1820- 1890)، كانوا يرون الغرب باعتباره نموذجا، ولكن مع ظهور الطابع العدواني لهذا النموذج ظهرت المدرسة الإصلاحية الإسلامية التي مثلها جمال الدين الأفغاني( 1838-1897)، ومحمد عبده (1849-1905) وتلميذه رشيد رضا (1865-1935) ، وكان جدال تلك المدرسة مع الغرب ليس فقط حول قضية مقاومته عسكريا وإنما مقاومته على الجانب الثقافي والفكري والديني باعتباره تهديدا للدين الإسلامي أيضا.

ومع سؤال التحرر من التبعية الاستعمارية الغربية ومقاومتها  ظهر سؤال الإصلاح الديني الذي مثله بشكل أساسي الشيخ محمد عبده، والذي حاول فيه أن ينزع ما حاول أستاذه أن يقدمه في العلاقة مع الغرب باعتباره تهديدا، وإنما سعي للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والمدنية الغربية ورفض السلطة الكهنوتية واعتبار أن الأعمال التي يؤديها القضاة والمفتون والخلفاء عملا مدنيا، وأكد أن السبيل لتقدم المسلمين هو العودة إلي دينهم الذي يحمل بداخله توافقا مع العصر والحضارة والمدنية، ولم تكن معركتة الإصلاحية فقط هي محاولة التوفيق مع الحضارة الغربية وإنما أيضا مع القوى التقليدية والجمود في الأزهر ومع الطرق الصوفية التي كان يشجعها السلطان عبد الحميد في ذلك الوقت لاستخدامها كأداة سياسية في دعم ما اعتبر استبدادا سياسيا يوظف الدين باسم الجامعة الإسلامية.

ومع بدايات القرن العشرين وعقب هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى وتقسيم الاستعمار للعالم العربي وفق اتفاقية سايكس – بيكو ظهر سؤال الدولة وتقدمت النخب الليبرالية المتعلمة في الغرب متأثرة بأفكاره بشكل أساسي في تكوين الأحزاب وصياغة الدساتير والتأسيس لمسار ليبرالي متوافق مع الأفكار الحديثة في قضايا الديموقراطية والبرلمان والرقابة على الحكومة، وكان حزب الوفد(1923- 1952)  في مصر هو عنوان المدرسة الليبرالية في ذلك الوقت، وهو عنوان مدرسة الحركة الوطنية المصرية الجامعة التي تضم المسلمين والأقباط معا، وكانت الدولة القومية Nation-State هي النموذج الجديد باعتبارها عنوانا للمواطنة وتحقيق المساواة بين المنتسبين إليها وأنها دولة القانون وتحقيق العدالة وأنها في التحليل النهائي يجب أن تكون دولة ديموقراطية السلطة فيها للشعب وتداول السلطة عبر الصناديق هي الوسيلة السلمية للانتقال السياسي، ومن هنا كان سؤال الدولة وكيف يمكن أن تكون أداة لتحقيق الديموقراطية وملتزمة بالدستور باعتباره الوثيقة الأساسية والقانون باعتباره مرجعية لها.

وظهرت من بعد الأيديولوجيات الاشتراكية والقومية وهي تقدم أطروحات للمواجهة مع الغرب.. في حالة الشيوعية فإنها تقدم نقدا ومعاداة للنظام الرأسمالي، لكنها لا تنتقد جوهر الأفكار الغربية والفكرة القومية التي تصاعدت في العالم العربي في الستينيات بشكل خاص، وكانت مصر تعبيرا عن عنفوانها، حيث كانت أكثر صخبا وإجلابا في مواجهة الغرب على المستوي السياسي، بيد أن هزيمة 1967 أدت إلى تدهور الأفكار القومية، كما أن الأفكار الشيوعية خبت وانهارت مع اختفاء النظم الاشتراكية من الحياة، خاصة مركزها الأساس في الاتحاد السوفيتي وملحقاته في أوروبا الشرقية.

ولا يزال سؤال النهوض العربي معلقا ينتظر الإجابة، فبعد ثورات الربيع العربي التي تجاوزت الأيديولوجيات الكبرى الوافدة من الغرب واهتمامها بأسئلة المعاش المتعلقة بحياة الناس مثل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحرية التي تعني في بعدها الرئيس بناء جسر مدني بين خيار الإنسان الفردي وبين محافظته علي دينه، وتأسيس دولة مدنية تلتزم الديموقراطية والدستور والقانون دون مخاصمة للدين وكأنه نوع من الاستعادة للإصلاحية الإسلامية ذات الطابع التوفيقي وليست مدارس التنظيمات الإسلامية الحزبية التي لم تستطع بناء تقاليد مشاركة وإنما جوهرها هو المواجهة مع الدولة الوطنية الحديثة.

أي أن ثورات الربيع العربي تستعيد من جديد سؤال النهضة منذ طرحه في مطلع القرن التاسع عشر وهو التحرر من التبعية الاستعمارية وبناء أسس للاستقلال الوطني المستند إلى تقاليد الأمة العربية على مستوى السياسة أو الاقتصاد والتنمية وبناء الدولة المدنية الديموقراطية التي تحترم المواطن وكرامته وتحترم الدستور والقانون وتعترف بتداول السلطة عبر صناديق الانتخابات والتي يكون الشعب فيها أساس السلطة السياسية.

ومع صراع الأفكار التي طرحتها الثورات العربية مع تلك التي لاتزال تراها خطرا فيما يعرف باسم الثورات المضادة واستعادة تقاليد دول الاستبداد والتبعية معا، يبقي سؤال النهضة العربية معلقا ينتظر أن تدرك النخب العربية جميعها أن ما طرحته الثورات العربية فيما يتعلق بقضية الاستقلال الوطني والدولة الديموقراطية المدنية هو الخيار الذي لا مناص منه حتى يمكننا تجاوز ما قيل من أن العرب ظاهرة صوتية،  أو أن العرب مقبولون على أطوار الفناء.. تجدد النهضة العربية وحياة الأمة العربية مرهون بتحرير سؤال النهضة من كونه معلقا عبر إرادة سياسية مستنيرة ونضال شعبي واع لتحقيق الاستقلال والدولة الديموقراطية المدنية.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock