هي إحدى خوالد الغناء العربي في القرن العشرين، تأسر المستمع، وتأخذه إلى عالم من التصوف والضراعة وطلب المغفرة، لا من باب التوبة والإنابة والتعهد بترك الملذات، ولكن من خلال الإقرار بالضعف الإنساني، والاعتراف بتكرار الخضوع لفتنة الجمال ومعاناة الحرمان.. صاغ كلماتها الفريدة أحد أكبر شعرائنا الغنائيين، حسين السيد، ولحنها وغناها فيلسوف الموسيقى العربية، النازع دوما إلى الوحدة والتصوف، رياض السنباطي.
جاءت الأغنية في قالب الطقطوقة، مكونة من مذهب و3 أغصان، واختار لها السنباطي مقام الهزام، الذي كان يفضله كثيرا عند تلحين الأعمال الدينية الكبرى مثل إلى عرفات الله، نهج البردة، حديث الروح.. يتعامل السنباطي مع هذا المقام بما يفجر أجواء روحانية، وطاقات صوفية محلقة.. في هذا العمل يتجول السنباطي بين عدد من المقامات، ثم يعود باقتدار إلى الهزام استعدادا لتكرار المذهب.
يُلخص المذهب فكرة الأغنية وموضوعها:
إله الكون سامحني أنا حيران
جلال الخوف يقربني من الغفران
وسحر الكون يشاور لي على الحرمان
وأنا إنسان يا ربى أنا إنسان
طلب ضارع بالتجاوز والمسامحة، يُقدم بين يدي حيثيات تتمثل في الحيرة، بين “جلال الخوف” الذي يراه الشاعر هنا سببا من أسباب الاقتراب من نيل المغفرة، وبين “سحر الكون” الذي يُذكر بالحرمان من الملذات، ويشير إليها.. وما تلك الحيرة إلا لكوني إنسانا، فيه سمو النفخة الإلهية، واستفال التراب والطين.. و”أنا إنسان يا ربي.. أنا إنسان”.
ما لخصه الشاعر في مذهب الأغنية، يوضحه باستفاضه عبر الأغصان الثلاثة، فيقول في أولها:
قابلت خدود صفا لونهم بلون الفجر في أدانه
وفيهم لون خجل يفتن ربيع الورد في أوانه
لقيت الفتنة هتصادف كيان عايش بوجدانه
وخفت الشوق يسهيني.. يلاقى في قلبي أوطانه
رجعت لوحدتي أشكى ضنىَ قلبي وحرمانه
لقتنى في روضة بتغني نغم ألوان
جمال الورد فكرني على الأغصان
بلون الخد وحرمني من النسيان
يا خالق الورد سامحني أنا إنسان
قابل الخدود الفاتنة التي صفا لونها، مشبها هذا الصفاء بلون الفجر عند انطلاق الأذان، وبأن فيهم من الخجل الجميل ما يكفي لفتنة الربيع المزهر، فشعر أن هذه الفتنة قد أصابته وهو صاحب الكيان الوجداني الهش، وأنها ربما استقرت واستوطنت في قلبه.. عاد إلى وحدته يبكي ما يعانيه من ضنى وحرمان، لعل هذه الوحده تنسيه ما رأى من جمال وفتنة.. لكنه استفاق من حالته ليجد نفسه في روضة مزهرة، فذكرته ورودها بجمال الخدود التي كان رآها من قبل، وحرمته من النسيان الذي سعى له.. ولأن الورد كان سببا لتذكر الجمال وضياع النسيان، فقد نادى ربه صارخا: “يا خالق الورد سامحني أنا إنسان”.
الشاعر حسين السيد
وفي الغصن الثاني، يواصل الشاعر عرض معاناته:
وشفت عيون بتسألني سؤال احترت في جوابه
على رمش الهوى كلمة حروفها قلبي وشبابه
جريت منهم ومن روحي ومن قلبي وأحبابه
لحد الليل ما قابلني وقلت ادارى بسحابه
وأنام وانسى هوى الدنيا واسيب العشق لاصحابه
لقيت فكرى صحيِ منى وأنا نعسان
على عيون جت تكلمني عن الحرمان
أتاري الصبر غافلني وكان عطشان
يا خالق الصبر إرحمني أنا إنسان
هرب من العيون وأسئلتها المحيرة.. جرى من أوجاع روحه وقلبه.. وفر من أحبابه.. فلما جن عليه الليل، ظن أن فيه الملجأ، وأن النوم فرصة للنسيان، وترك العشق لمن يُكابده، لكن أفكاره اشتعلت، وبالرغم من أنه مازال في حالة النعاس، إلا أنه وجد نفسه أمام “عيون” جاءته لتذكره بما يعاني من ألم وحرمان، فأدرك أن الصبر الذي أراد أن يستمسك به قد خذله، فتوسل إلى رب الصبر ضارعا: “يا خالق الصبر إرحمني أنا إنسان”.
أما الغصن الثالث والأخير، فحمل الإقرار الصريح بالضعف أمام الجمال، دون محاولة للهروب كما في الغصنين الأول والثاني:
إله الكون أنا عابد جمال الخلق والقدرة
بشوفهم في الجبال قوة وفى عيون الأمل نظرة
واشفوهم في الفضا عزة وفوق خد الهوى شعرة
وليا عيون إذا شافت تحب تشوف كمان مرة
وذنبي في الهوى قلبي يحب يعيش ولو بكره
إله الكون سامحني أنا حيران
جلال الخوف يقربني من الغفران
وسحر الكون يشاور لي علي الحرمان
وانا إنسان يا ربى أنا إنسان
هنا يبلغ الإقرار ذروته، لا سبيل إلى تغيير طبيعتي البشرية، أنا ضعيف يا ربي أمام كل أشكال الجمال، أهيم في الخلق الذي هو الدليل على قدرة الخالق هيام عابد.. إذا وقعت عيني على الجمال مرة، تاقت إلى أخرى.. ذنبي الذي أقر به أن لي قلبا يحب أن يحيا مع الجمال ولو ليوم واحد هو الغد المنتظر.. بضعفي، وهواي، ورغباتي، وحبي للجمال، وحقيقتي الإنسانية التي يملؤها جلال الخوف.. أطلب من الله أن يسامحني.. فقط لأني إنسان.
لحن رياض السنباطي هذه الأغنية الخالدة وغناها في خمسينيات القرن الماضي، وكان أداؤه فيها شديد الإرهاف، حمل صوته بالضراعة والانكسار، وملأ اللحن بالانتقالات النغمية التي جاءت في غاية السبك والمتانة.. ومن أمثلة ذلك الكوبليه الأول الذي استهله من مقام البياتي، وعرج فيه على مقامات البستنيكار والراست قبل أن يعود إلى الهزام.. ولم يُخل غناءه من تصرفات طربية في غاية التهذيب.. وقد قيل وسيقال الكثير حول هذه الأغنية، لكني أختار في الختام كلمات الناقد والمؤرخ والباحث في التراث الفني وجيه ندي إذ يقول: “بصوته الرباني.. المعطر بالموهبة الخصوصي.. بنعومة الحرير.. وملمس الابتهال.. ورهبة المحلق في دعائه لخالقه.. يغني رياض السنباطي ما لم تستطعه جميع الحناجر التي خلع عليها ألحانه.. تنساب العبارات والعبرات في الأعماق وعلى الأسطح.. عندما يغني حاشدا مجامع حرقته ولوعته وورعه وصلاته ونسكه وتقواه.. ليرفع رسالته الوجدانية في خشوع للسماء: إله الكون سامحني أنا حيران”.