فن

The Post يفضح صراع ترامب مع صاحبة الجلالة

برغم أن أحداث الفيلم تدور في سياق حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، الذي تولى سدة الحكم في الفترة من 1969 إلى 1974، إلا أنه موجه بالأساس إلى جمهور عام 2018، الذي عايش سياسات إدارة الرئيس ترامب على مدى عام كامل. في هذا السياق، جاء فيلم المخرج، ستيفن سبلبيرج، رسالة صارخة حول ما تكابده حرية التعبير في مواجهة السلطة المطلقة.

يتزامن عرض الفيلم – الذي عرض لأول مرة في الولايات المتحدة مطلع العام 2018- مع فترة عاصفة من التاريخ السياسي الأمريكي، شوه فيها الرئيس الحالي، دونالد ترامب – كما يرى كثيرون – المنصب الرفيع، ما قد يدفع الكثير من الأمريكيين إلى الكفر بمؤسساتهم لعقود طويلة قادمة.

ورغم أن المقارنة العميقة والجلية التي يعرض لها الفيلم بين رغبة الرئيس نيكسون الجامحة في السيطرة على الخطاب الإعلامي من جانب، وتعمد الرئيس ترامب لتجاهل الحقيقة بشكل صارخ، وربما احتقارها، من جانب آخر، تحتل مكانا بارزا في الصراع الدرامي، إلا أنها تبدو كما لو كانت ليست القضية الرئيسة، لا سيما في المرحلة التي يتجه فيها الفيلم نحو بناء عقدته العاطفية.

تدور أحداث الفيلم في عام 1971، عندما قام المحلل العسكري السابق، دانيال إلسبيرج، بتسريب ما يُعرف بـ”أوراق البنتاجون”، التي كانت سببا رئيسا في قرار انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام.

أعطى إلسبيرج هذه الملفات السرية إلى صحيفة The New York Times، وكشفت أن أربع إدارات أمريكية متعاقبة كانت على دراية تامة بعبثية استمرار الولايات المتحدة في حربها في فيتنام، إلا أن خوف هذه الإدارات من أن يلحق بها عار الهزيمة جعلها تستمر في هذه المعركة الخاسرة، مضحية بأرواح عشرات الآلاف من جنودها.

لكن فيلم The Post لا يدور حقيقة حول تفصيلات هذه القضية، على غرار– مثلا – الفيلم الوثائقي The Most Dangerous Man in America: Daniel Ellsberg and the Pentagon Papers، e Most Dangerous Man in America: Daniel Ellsberg and the Pentagon Papersن الجنود استكبارا عن دور في سياق حقبة الرئيس الأمريكي ، الذي عرض في عام 2010، إنما تناول سبلبيرج على نحو أعمق تداعياتها، لا سيما على حرية النشر والتعبير. فبعد أن نشرت صحيفة The New York Times تقاريرها الاستثنائية، شعر رئيس تحرير صحيفة The Washington Post، بن برادلي (توم هانكز)، باليأس من أن يكون له دور ملموس في هذه القصة المهمة.

يتمحور الصراع الدرامي في إطار داخلي نفسي في أعقاب منع صحيفة The New York Times من مواصلة نشر هذه الوثائق، بموجب حكم قضائي حصلت عليه إدارة الرئيس نيكسون، حتى يتم الفصل في القضية؛ إذ وضع هذا الحكم فريق العمل في صحيفة The Washington Post، بقيادة برادلي، أمام خيار أخلاقي ومهني معقد بشأن نشر هذه الوثائق، وتحمل تبعة فعلتهم، التي قد تصل  إلى السجن.

يترك برادلي القرار النهائي لمالكة الصحيفة، كاثرين جراهام (ميريل ستريب)، التي تجد نفسها في أتون مواجهة شرسة، ليس فقط ضد المعارضين من داخل المؤسسات النافذة، وإنما أيضا ضد ضغوط عنيفة لتحقيق التوازن بين تحقيق الأهداف المالية للصحيفة والالتزام بإجراء الحماية المؤقتة.

كانت ملكية هذه المؤسسة الصحفية قد آلت إلى جراهام عن أبيها بعد موته، لكنها لم تتول إدارتها إلا في أعقاب موت زوجها. ويتتبع الفيلم بشكل أساسي رحلة جراهام لاكتساب الثقة في قدراتها المهنية والإدارية كأول امرأة تتبوأ هذه المكانة في الولايات المتحدة، بقدر ما يتتبع نزاهة الصحافة ودورها الحيوي ضمن منظومة ديمقراطية فاعلة.

وعلى النقيض من فيلم All the President’s Men­ – الذي يدور حول الدور الذي لعبته صحيفة The Washington Post في فضيحة ووترجيت، لم يعمد فيلم The Post إلى تهميش إسهامات جراهام كرئيس لواحدة من أهم الصحف في النصف الثاني من القرن العشرين.

ربما يتفوق فيلم Spotlight على غيره من الأفلام السياسية في مستوى كتابة السيناريو، لكن فيلم The Post يظل هو الأفضل من حيث التصوير والإخراج. فقد نجح سبلبيرج بامتياز في إضفاء إثارة على مشاهد تبدو عادية لأفراد يتجادلون في غرفة رتيبة، أو لأناس يجرون محادثات هاتفية، كما يبدي سبلبيرج احتراما عميقا في كل لقطة حتى لأدق التفاصيل. إضافة إلى ذلك، تثير المشاهد المتعلقة ببيئة العمل في الصحف المطبوعة نوعا من الحنين إلى ملمس أوراق الصحف بين الأصابع في عصر الرقمنة.

ينجح سبلبيرج في هذا الفيلم أيضا في كسب تحد شديد الخصوصية فيما يتعلق بالمحافظة على انتباه جمهوره وإثارتهم. فالفيلم يناقش مآلات قضية أوراق البنتاجون، وجميعها معروفة مسبقا. لكن سبلبيرج يبرز القضية في إطار صراع دراماتيكي يتمثل في العلاقة بين الصحافة والمؤسسات القوية التي تحاول أن تفرض على الصحافة سياجا من القمع والتكميم؛ لذا فإن أفضل مشاهد الفيلم هي تلك التي تجمع بين جراهام وبرادلي اللذين تربطهما علاقة وثيقة بالمؤسسة السياسية، ويخوضان غمار مواجهة حاسمة ضد هذه السياسات للانتصار لحرية الصحافة من جانب، ولنجاحهما المهني من جانب آخر.

وإضافة إلى كسب تحدي الإثارة، ينجح سبلبيرج في كسب تحد أعمق، وهو تحدي التأثير. فالفيلم يكتسب أهمية خاصة في حقبة تاريخية ينشر فيها الرئيس الأمريكي، ترامب، تغريدة عن منح جوائز خاصة “لأسوأ الأخبار”، في إعلان فج عن مواجهة متجددة بين السلطة السياسية وحرية الصحافة. في هذا السياق، يأتي فيلم The Post كرد صريح على تغريدة ترامب وسياساته.

*هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock