عرفت كل الشعوب مشاعر العار القومي في لحظات من تاريخها. يكون شعور المرارة والإحباط العام مضاعفا لشعوب عاشت لقرون على صورة وهمية متأصلة عن ذات قومية متفوقة على غيرها لتميز العنصر أو العقيدة غالبا.
عانى الصينيون هذا الشعور خلال حرب الأفيون الطاحنة، واليابانيون في أعقاب انسحاقهم العسكري وإذلالهم الإنساني بعد “القنبلة”، كما عاناه الألمان في أعقاب التوقيع على معاهدة الاستسلام بعد الحرب العالمية الأولى، ما مهد لصعود شعبية هتلر باعتباره المنقذ والمخلص.
شعوبنا العربية والإسلامية ليست استثناء من ذلك، بل إنها قد تتفوق على غيرها من حيث عدد تلك اللحظات المرة، وكذلك من حيث طول مداها الذي استمر لعقود في بعض الأحيان.
في الحالة المصرية على سبيل المثال عاين الشعب خبرات صعبة من هذا النوع مرات عدة في تاريخه الحديث والمعاصر. مع قدوم الحملة الفرنسية كانت لحظة الانسحاق المفاجئ أمام التنظيم العسكري الحديث وإدراك الهوة العلمية السحيقة مع الغرب، كذلك كانت لحظة هزيمة الثورة العرابية أمام الاحتلال البريطاني، ثم تبخر أحلام الاستقلال والدستور في أعقاب ثورة 1919.
بعض هذه الصدمات في الوعي والمرارة في المشاعر تترك وراءها آثارا بعيدة المدى عادة ما تتجاوز الخيال المستقبلي المحدود لمن خبروا هذه اللحظات. الغريب أن هذه الآثار لا تكون سلبية على طول الخط، بل أن بعضها قد يكون إيجابيا، بل يصل إلى مستوى القفزة النوعية في تاريخ الشعوب وفق نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي. يفسر لنا ذلك كيف أدت نكبة 1948 مثلا إلى سقوط نظم سياسية كاملة ونشوء حركات التحرر الوطني في أنحاء العالم العربي.
في المقابل وبعد نكبة فلسطين بعشرين عاما، وبغض النظر عن جسارة التماسك الشعبي والسياسي التي أثمرت حرب الاستنزاف وانتهت بحرب أكتوبر 1973، فإن هزيمة يونيو 1967 كانت نقطة فاصلة سلبية في الوعى العام المصري والعربي والإسلامي، قصمت ظهر مشروع التحرر القومي بضربة من الخارج، ومهدت لظهور شرعيتين سياسيتين جديدتين لما يسمى بـ”الاعتدال العربي” من ناحية وما يسمى بالإسلام السياسي والجهادي من ناحية أخرى، فقد وفر مناخ الإحباط الذي أعقب الهزيمة البيئة المواتية لاستدعاء الإخوان المسلمين للساحة السياسية (لمواجهة اليسار)، كما فتح الباب لظهور الإرهاصات الأولى لحركات العنف الإسلامي في مصر والمنطقة.
ومن الملفت للنظر أن الشيخ الشعراوي، الذي خر ساجدا لله شاكرا على الهزيمة، لم يكن نشازا من تيار الوعي النقيض الذي انبثق في لحظة الانكسار القومي، والذي عبر عنه أيمن الظواهري أيضا في كتابه “فرسان تحت راية النبى” بقوله: “أدركت الحركة الجهادية أن الصنم قد نخر فيه السوس حتى أوهنه ثم مادت به الأرض من تحته بزلزال النكسة فخر على أنفه منتكسا وسط ذهول كهنته وهلع عباده، فاشتد عزم الحركة الجهادية…وبدأت الصحوة الإسلامية كخيار تلقائي”.
وقد أثبتت لحظة التحول هذه أن الحركات الإسلامية التي استأنفت انتشارها في أعقاب الهزيمة مباشرة لم تكن تفرق بين العهد الناصري القديم والعهد الساداتي الجديد وأنهما في العداء سواء كما قال عبدالمنعم أبوالفتوح، أى أن النموذج الأساسي للتفكير أو معيار التصنيف الفكري ذاته قد تم كسره واستبداله بآخر تحت تأثير حالة الشعور بالعار القومي، فبعد أن كان التصنيف السياسي الأكثر شيوعا في المنطقة يميز بين فكر إسلامي تقدمي يركز على إنسانية الإسلام وعدالته وتقدميته وآخر رجعي يوظفه اليمين العالمي والمحلي ليصبح أفيونا للشعوب، مالت الكفة تدريجيا لتصنيف أكثر بساطة وسطحية بين “الإسلام” – هكذا دون تمييز – وكل ماعداه من اجتهاد فكري إنساني تقدمي ديمقراطي حديث.
عاشت المنطقة مشاعر العار القومي مرة أخرى بعد تبخر تضحيات حرب أكتوبر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل ثم إخماد انتفاضة الحجارة عام 1991 قبل ضرب العراق عام 1992. لذلك شهدت هذه الفترة وصول العنف الإسلامي إلى ذروته، وبدايات حركات التمرد والمعارضة السياسية المدنية التي استمرت طوال العقدين الأخيرين.
تمر المجتمعات العربية والإسلامية ألآن بلحظة أكثر خطورة تتجاوز ما سبقها من لحظات انكسار، فبالإضافة لشعور العار القومي الذي نتج عن الهزائم على كل الجبهات الخارجية، هزمت الشعوب من الداخل عندما تحول أملها في ربيع الحرية والعدالة إلى خريف من الصراعات الاجتماعية والطائفية والسياسية الداخلية، يضاف إليه هذه المرة قدر غير مسبوق من التعقيد والغموض المولد للمزيد من الحيرة والقلق والإحباط حول المستقبل واحتمالاته.
وعلى الرغم من أن قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس لم يضف الكثير على ما هو قائم من أوضاع عربية مخزية إلا أنه جاء بمثابة الإعلان الرسمي الكاشف عن تلك الأوضاع، وليس أفضل من هذا المناخ لازدهار جماعات الإرهاب الديني في طبعتها الداعشية ومابعد الداعشية الأكثر عنفا ودموية.