منوعات

حروب المستقبل .. تكنولوجيا المعلومات تحيل الخيار النووي للتقاعد

في أعقاب الحرب العالمية الثانية تأسس نظام عالمي جديد قائم على الهيمنة الأمريكية Pax Americana ، فالولايات المتحدة التي ظلت أراضيها بعيدة عن ويلات الحرب ودمارها، استمرت في العمل بكامل طاقتها الاقتصادية، تغزو منتجاتها الوفيرة أسواق العالم، خاصة بلدان أوروبا التي دمرتها الحرب، ما أدى إلى تدفق نحو 70% من ذهب العالم للسوق الأمريكية.

أتاح التفوق الاقتصادي للولايات المتحدة أن تفرض إرادتها في التأسيس لنظام اقتصادي عالمي جديد، تم تدشينه في بريتون وودز عام 1944، وضع الأساس لثلاث منظمات تحكم الاقتصاد العالمي، أولها صندوق النقد الدولي، ومهمته تثبيت أسعار العملات لوقف الحروب التجارية بين الدول الكبرى، والثانية البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الذي أنشئ أساسا لإعادة تعمير أوروبا واليابان بعد الحرب، والثالثة منظمة التجارة الدولية (ITO) ومهمتها تحرير التجارة  العالمية وفتح أسواق سائر بلدان العالم أمام تدفق حر لحركة السلع والخدمات لا تعوقه حواجز تجارية أو قيود حمائية. إلا أن رفض الكونجرس الأمريكي التصديق على اتفاقية تأسيس المنظمة الأخيرة أعاق إعلان تدشينها لعقود طويلة، بعد أن شهد عام 1947 تمرير جزء من ميثاق المنظمة تحت مسمى الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة(GATT)، أعقبه سلسلة من مفاوضات تجارية مضنية استمرت حتى إعلان تأسيس منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 1994.

على صعيد السياسة الدولية، تكرر سعي الولايات المتحدة لفرض هيمنتها على قيادة النظام العالمي الجديد، كان حضورها لافتا في صياغة ميثاق الأمم المتحدة الذي تم إقراره في سان فرانسيسكو في يونيو عام 1945، لكن ما حسم أمر الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي الجديد، هو الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس عام 1945. بعدها نجح الاتحاد السوفيتي في أول تجربة لسلاح نووي في أغسطس عام 1949، معلنا تدشين المعارضة السوفيتية للهيمنة الأمريكية، لتبدأ حرب باردة بين قطبي النظام العالمي استمرت حتى سقوط حائط برلين عام 1989. وفرض العصر النووي توازنا جديداً للقوة من خلال الردع المتبادل، مع سعي كلا القطبين لتعزيز نفوذه حول العالم، ويذكر ريتشارد نيكسون في كتابه 1999 “نصر بلا حرب” أن الولايات المتحدة نجحت في حصار الاتحاد السوفيتي بسلسلة من الأحلاف، لكن جمال عبد الناصر نجح في كسر هذا الحصار بصفقة السلاح التي عقدها مع الاتحاد السوفيتي عام 1955.

يرى هنري كيسنجر، داهية السياسة الأمريكية، أن أحد أكبر التحديات التي تواجه تطلع بلاده لإحكام الهيمنة على العالم في القرن الحادي والعشرين يتمثل في التطور التكنولوجي الفائق وتأثيره الكبير على الجوانب الإستراتيجية والتكتيكية، لافتا إلى أن التطور الهائل في تقنيات الصناعات العسكرية نقلها إلى آفاق أرحب كثيرا من بداياتها التقليدية، رغم استمرارها في أداء نفس الوظائف بإمكانات أوسع، فالدبابات الحديثة فائقة التجهيز هي تطور طبيعي لحروب الفرسان والخيالة، والطائرات القاذفة صيغة أخرى من المدفعية، والبوارج الحربية صيغة متطورة للقلاع الحصينة، وحاملات الطائرات مطارات متحركة، وحتى الأسلحة الذرية تطور يكمل تجارب سابقة.

ويرصد كيسنجر التطور الهائل في الحواسب فائقة القدرات وتمدد تكنولوجيا المعلومات إلى جميع المجالات، من القراءة والتسوق والتعليم والبحوث الصناعية والعلمية، إلى المراقبة والتجسس والإستراتيجية العسكرية، التي باتت كلها تنفذ بكفاءة عالية باستخدام فضاء الإنترنت. وتخطى عدد الأجهزة الموصولة بالشبكة العنكبوتية عشرة مليارات جهاز، يتوقع صعودها إلى 50 مليار جهاز بحلول عام 2020، ما يعزز التكهنات بعالم كلي الحوسبة، يربط الأشياء كلها بالإنترنت ليتم التحكم فيها من خلال مخدم مركزي  Server أو غيره من أجهزة تشبيك أخرى، ما يعني أن الفضاء المعلوماتي  Cyber Spaceبات أمرا لا يمكن الاستغناء عنه استراتيجيا.

ويتنبأ قائد المعلوماتية الأمريكي جنرال كيث ألكسندر بأن الحرب القادمة ستبدأ في الفضاء المعلوماتي، ومن ثم، لن يكون ممكنا تصور أي نظام دولي يكفل استقرار الدول وتقدمها، دون معايير سلوك دولية منضبطة لا تدعه متروكا لقرارات أحادية منفلتة. الأمر الأكثر خطورة أن فضاء المعلومات لم يعد ممكنا معه بناء ردع على أساس الانتقام المتبادل كما هو الحال مع الأسلحة النووية، وبات أكبر الأخطار يتمثل في شن هجمات لها عواقب عالمية دون إنذار، فأي عنصر لديه لابتوب متاح له الوصول إلى فضاء معلوماتي، بإمكانه شن هجمات تفضي إلى تدمير بنية تحتية أو شل قدراتها إلى درجة شبه كاملة، فالشبكات الكهربائية ومحطات توليد الطاقة وغيرها عرضة للتشويش أو التعطيل عبر هجمات منفذة خارج حدود الدولة.

شهدت السنوات الأخيرة بالفعل هجمات من عصابات سطو سرية أثبتت قدرتها على اختراق شبكات حكومية ونشر معلومات سرية على نطاق كافي للتأثير على كيانات ودول بأكملها. لقد نجح STUXNET مثلا في تعطيل وتأخير جهود الهند النووية عبر بعض الحسابات، كما أكدت شواهد عدة أن هجوما إلكترونيا من جهة ما، شن باستخدام فيروس STUXNET على أنظمة المعلومات في إيران، لإلحاق الضرر بأجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في منشآتها النووية، وكان يستهدف على ما يبدو البرنامج النووي الإيراني ككل. كما شهدت ماليزيا ودول عدة غيرها‏، هجمات مماثلة يقدر أنها أصابت حوالي ‏45‏ ألف حاسب آلي في أنحاء العالم، ‏60%‏ في إيران وحدها، و‏18%‏ في اندونيسيا‏، و‏2%‏ في الولايات المتحدة. ووصفت شركة الأمن الرقمي الروسية  Kaspersky Laboratories هذا الفيروس بأن من شأنه أن يخلق سباق تسلح جديد في العالم، ورجحت وجود خبراء يعملون لحساب دولة ما أو مجموعات لديها قدرات تمويلية عالية وراء مثل هذه الهجمات.

كذلك عانت دول وشركات كبرى من هجمات باستخدام البوتنت BOTNET أحد أخطر الثغرات الأمنية التي تواجه الشركات والدول أحيانا، وأبرز مثال لها ذلك الهجوم الذي وقع من روسيا على استونيا عام 2007، وأدى إلى تعطيل الاتصالات في المرافق الحكومية والشركات لثلاثة أسابيع متصلة.  البوتنت، أو شبكة الروبوت، هي مجموعة ضخمة من الأجهزة قد يصل تعدادها للملايين يتم اختراقها عن طريق ما يسمى “سيد البوت” Bot Master الذي بإمكانه استخدام قناة أوامر وتحكم (Command and Control Channel C&C)  لإدارة شبكته وتنفيذ هجماته، والتسمية مشتقة من كلمة (Robot Network)، فالأجهزة تخدم “سيد البوت” دون اختيارها، تمامًا مثل أجهزة الروبوت، وبمجرد أن ينضم الجهاز لشبكة الروبوت فإن سيد البوت يستطيع التجسس على صاحب الجهاز والتحكم فيه دون أن يشعر بوجوده.

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock