مختارات

«شكراً لأنك ممن جعلوني أنا» .. محمد أبو الغيط يروي رحلته في عالم أحمد خالد توفيق

إحدى أصدق الشهادات عن ظاهرة أحمد خالد توفيق، الكاتب الذي سكن وجدان جيل كامل من الشباب، وغادرنا قبل ساعات في صمت جليل دون صخب أو طنطنة، خطها بشجن يلامس القلوب الصحفي محمد أبو الغيط أحد أبناء عالم أحمد خالد توفيق الذي اتسع للآلاف من شباب مثله أقبلوا بنهم على قراءة كل رواية تصدر له وكل حرف تخطه يده، في المقابل وجدوا منه اهتماما وحنوا عليهم وعلى مواهبهم الواعدة لم يجاريه فيه أحد.

هنا ما كتبه أبو الغيط .. ورأيناه جديرا بقراءة أوسع من كل من يرغب في التعرف على العالم السحري لكاتب لا يجاريه أحد في خلب ألباب الشباب ..

تتسع عينا الطفل/ المراهق من خلف النظارة الكبيرة. ما يقرأه الآن مختلف تماماً عن كل ما جربه قبل، مختلف عن مجلات ميكي، وماجد، وباسم، وعن «ألغاز» المغامرين الخمسة، وعن كل الكتب الإسلامية بدءاً بـ«بروتوكولات حكماء صهيون» وحتى «حكايات عن الإخوان».

كانوا يسمونه في المدرسة «الولد بتاع ميكي». دائماً في حقيبته مجلات، غالباً ميكي، يسعد للغاية برؤية زملائه يقرؤنها في أي وقت متاح بين الحصص.

لكن «الولد بتاع ميكي» أصبح أكبر قليلاً، يبحث عن أشياء مختلفة لتشبع نهمه المتزايد للقراءة، وجد في مكتبة منزله كتباً كثيرة تشترك في كونها إسلامية فقط، إخوانية غالباً، وهو نفس الوضع في مكتبة جده.

فجأة بالصدفة وجد في كتب خاله القديمة بمنزل جده شيئاً مختلفاً، كان العدد رقم 22 من سلسلة رجل المستحيل «أصابع الدمار». انفتحت أمامه المغارة السحرية.

بدأ مع نبيل فاروق، انبهر بعوالمه في البداية قبل أن يبدأ الملل، وبمصادفة أخرى وجد العدد 30 من سلسلة ما وراء الطبيعة «أسطورة بعد منتصف الليل»، على الغلاف الخلي وجد الاسم الذي سيؤثر به ما حيي: أحمد خالد توفيق ..

لم تعد القراءة مجرد تسلية، أو «غريزة» بالنسبة له. لقد أصبحت طريقته لتتغير نظرته للعالم كله أصلاً.

هذا الولد بعد حوالي 15 عام كان يدخل معرض الكتاب وهو شخص آخر لا يجمعه بالأول إلا النظارة، والتي اختلفت بدورها لتصبح أحدث وأصغر.

الولد الذي أصبح الكاتب الصحفي محمد أبوالغيط ذهب إلى حفل توقيع د.أحمد، ليقول له بامتنان وعرفان حقيقي: شكراً.

(2)                                                                         

أدهم صبري كان بعيداً جداً.

هو البطل «الذي لا تجسر أن تكونه». يمكن أن تنبهر بقصصه الخارقة، لكنك تعرف أنك ستموت قبل أن تشاهد طرف بذلة أحد رجال المخابرات، وبالتأكيد لن تجيد استخدام مختلف الأسلحة والحديث بسبعة لغات، أو تقابل رجال المخابرات الروس الباردين، والاسرائيليات الجميلات.

يمكن أن تغرق في أحلام اليقظة معه لساعات، لكنك لن تتأثر في حياتك الواقعية بذرة واحدة مما قرأت.

مع شخصيات د.أحمد تختلف اللعبة تماماً. هنا نتعرف على البطل الذي «يمكن أن تكونه». البطل الرئيسي هو رفعت إسماعيل ضعيف الجسد، الذي يدخن السجائر كالمحرقة، ويخاف، ويحب ويكره لأسباب إنسانية بحتة، ويتوقع أموراً يثبت أنها خاطئة، ويصف نفسه مراراً بأنه كان «ساذجاً، ساذجاً، ساذجاً».

كل منا يمكن أن يشاهد عجوزاً أصلعاً، يرتدي بذلة كحلية يظن أنها «تجعله فاتنا».

وكل منا يمكن أن يمشي في نفس شوارع رفعت إسماعيل أو يشاهد شخصية تذكره بشخصية قابلها رفعت، أو يمر بمشهد حكى عنه رفعت.

وهو نفس ما ينطبق على علاء عبدالعظيم، الشاب المصري العادي جداً، بعصبيته واندفاعه وتناقضاته، وتحقيقه حلم الهجرة الذي يشترك به جيل كامل، وبالطبع عبير عبدالرحمن، الفتاة التي وصفها دائماً بأنها «تتميز بأنها لا تتميز بأي شيء».

وكالعادة يثبت أن هناك علاقة ما بين الشخصيات الأدبية وبين كاتبها، كان د.أحمد شخصياً دائماً الشخص العادي القريب- مثل شخصياته- بكل بساطته وتواضعه واهتمامه الدائم، لم تغيره لا الشهرة، ولا كونه أصلاً أستاذاً جامعياً ممن اعتدنا منهم الإقامة في أبراجهم العالية.

كان يحكي عن شبابه لنرى أنفسنا في زمنه، هو ذلك الشاب المجتهد في دراسته، القاريء للأدب الروسي والعربي، المُشارك في مجلات الكلية، المطمئن لوجوده في موطنه «طنطا» بينما تصيبه المدينة الكبيرة «القاهرة» بالارتباك بزحامها وضوضائها، وإلى اليوم مازال يرفضها. يكرر ساخراً عبارته «قروي سحرته أضواء المدينة».

(في لقاءه التلفزيوني الأخير مع خيري رمضان قال أن بقاءه في طنطا أفقده شبكات العلاقات المطلوبة ليكتب سيناريوهات أفلام أو مسلسلات، وهو راضٍ بهذا الثمن مقابل راحته النفسية!)

لن أنسى أبداً حين حضرت منذ سنوات طويلة ندوة مشتركة بين د.أحمد وكُتاب (آخرين). بعد نهاية الندوة رحل (الآخرون) بسرعة جداً كأنهم يهربون، طبعاً لأنهم مهمون جداً ومستعجلون جداً، كأن لديهم مهام (أمنية)!

أما د.أحمد فبقى طويلاً في المكان يوقع لأي شخص، ثم خرج يمضي بعض الوقت معنا بصحبة ابنه الذي تعرف علينا، ثم استأذن بذوق ليذهب لشراء كتب.

لم أنس هذا الموقف قط، مع أني أظن أنه شخصياً لو قرأ هذا المقال لن يذكر أي شيء.

كما أنه لن يلتفت إلى مدى انبهارنا بلفتات خارقة، مثل سفره خصيصاً لحضور أفراح بعض أصدقائنا، أو اعتناءه الشخصي بالحالة الصحية لصديقة إلى حد قراءته التحاليل الخاصة بها، ومناقشة الخيارات الطبية معها.

كان يتعامل معنا دائماً باحترام صادق، يأخذ اهتماماتنا بجدية مهما بدت تافهة أو بعيدة عنه.

د.أحمد.. شكراً لأنك تحترمنا.

(3)

أسيوط بعيدة جداً.

نتحدث هنا عن عصر ما قبل الانترنت أصلا، وما قبل سلاسل المكتبات، وما قبل طفرة دور النشر التي تلازمت مع طفرة التوزيع.

أسيوط لا تصلها الكتب، ولا تنعقد بها الندوات، ولا يراها المثقفون أو السياسيون.

في هذه الصحراء القاحلة فجأة ظهرت واحة د.أحمد خالد توفيق أمام ذلك المراهق التائه محمد أبوالغيط، وعبرها تعرف على كثير مما شَكَله الآن.

لم يكن مهتماً بالبحث عن الرعب في قصص رفعت إسماعيل، بل بالبحث عن المعلومات واللمسات الانسانية وأسلوب التفكير والتحليل. «سافاري» كانت جرعتها العلمية أكبر، وترجمات «روايات عالمية للجيب» فتحت المزيد من العوالم المدهشة، وكان د.أحمد أول من يقدم للشاب العربي أسماء مثل ستيفن كينج ومايكل كرايتون.

أما سلسلة «فانتازيا» فهي كنز لا ينضب، ولا يتصور أو يفهم أحد غيرقراءها مدى تأثيرها، ومدى المجهود البحثي الهائل، والاهتمام الكبير بالتفاصيل، الذي كان يقدمه الدكتور أحمد عبرها، رغم صغر حجمها وصغر سن الموجهة إليهم، حتى أنه استجاب لمطالبنا لتسهيل البحث فأصبح يكتب المصطلحات الانجليزية، وأصبح يرفق قائمة بالمصادر في آخر الكُتيب، وكان هذا مُبهراً حقاً. كما قلنا سابقاً الرجل أثبت دائماً أنه «يأخذنا بجدية» و«يحترمنا» على عكس الغالبية الساحقة من الكِبار.

عبر «فانتازيا» قدم د.أحمد كل أنواع الأعمال الأدبية العربية والأجنبية من ألف ليلة وليلة حتى بات مان، وكل أنواع الأحداث التاريخية من الحرب العالمية الثانية إلى قصة جيفارا، وحتى الأساطير اليونانية والفارسية والسومرية.

مع الوقت دخلنا عصر الانترنت، وأصبح لدينا جيل يبحث في «جوجل» عن كل رواية أو معلومة أو واقعة أو اسم يرد في «فانتازيا»، وكانت بوابته ليقرأ أكثر ويعرف أكثر.

والأمر لا يتعلق بدروس العلم والثقافة فقط، بل بدروس أسلوب التفكير الإنساني المتأمل، الانحياز للحرية والحق والجمال. يذكر الولد الدموع في عينيه من مأساه قنبلة هيروشيما في «حب في أغسطس» أو من قصة سارتجي بارتمان في «رجال من رجال».

وبجانب أعمال د.أحمد الأدبية كانت مقالاته الأسبوعية في الدستور في أيام مجدها تسير في نفس الطريق، ليس فقط توجهاته السياسية المعارضة، بل لأنه كتب مراراً عن الفقراء والمهمشين الذين يراهم بالمستشفيات، وحارب مراراً أساطير مختلف النصابين بالعلم منذ العلاج بالطب النبوي وحتى جهاز «الكفتة». (جمعها مؤخراً في كتاب شَربة الحاج داوود).

أزعم أن دور د.أحمد خالد «التنويري» أضخم وأهم من دور كل السادة «الملمعين المحفلطين» في وزارة الثقافة بكافة هيئاتها. أذكر جيداً أن السادة موظفو معرض القاهرة للكتاب- موسم تجمعنا السنوي الأضخم وبهجتنا الأزلية- كانو يتعنتون في التصريح لأصدقائي بمنتدى روايات بتنظيم ندوة للدكتور أحمد داخل المعرض، كانو يتسائلون بسذاجة عن أهم كاتب للشباب في مصر: مين ده؟ بيكتب ايه؟ يعني دي كتب أطفال؟!

في أحد السنوات لم تصدق المسئولة مدى اقبال كل هذا العدد على ندوة «لكاتب أطفال»، وأصرت أن السر هو أن هؤلاء أحضرتهم صديقتنا دعاء حسين منظمة الندوة، وطاردت دعاء لشهر كامل لتنظم لها ندوة مماثلة لروايتها المجهولة، ثم أقسمت بألا تصرح لنا بأي ندوة في المعرض مرة أخرى أبداً!

في الصف الثاني الثانوي كان الولد يجرب حظه على الانترنت- من خط التليفون في عصر ما قبل الدي إس إل- كتب في «جوجل»: أدهم صبري رفعت إسماعيل، فوجد بالنتائج موضوعاً من منتدى «شبكة روايات التفاعلية». سَجَل في الموقع وخطا خطوة أخرى في طريق تغيير حياته.

اكتشف أن هناك شباب كثيرون في العالم مثله، مهتمون للغاية بنفس ما يهتم به، يتناقشون بجدية فيما يقرأون، والعديد منهم تجاوز بكثير مرحلة الروايات، وكثير من نزهاتهم المشتركة هي معارض الكتب وندوات الكُتاب والحفلات الفنية. (فيما بعد سينزل العديد منهم معاً في مظاهرات حركة كفاية، ثم مظاهرات الثورة)

واكتشف المفاجأة الكبرى: د.أحمد شخصياً عضو في المنتدى، يرد على الناس، يقابلهم ويعرفهم، ويتحدث عن أمور كثيرة ثقافية وعامة.

عبر أصدقاء المنتدى عرف الشاب محمد للمرة الأولى أسماء صنع الله إبراهيم، ورضوى عاشور، ومحمود درويش ..الخ. تحول إلى «اسفنجة» تمتص بنَهَم شديد.

يذكر جيداً أنه كان يأتي من أسيوط خصيصاً ليوم واحد أو يومين، ليحضر ندوة أو حفل توقيع لد.أحمد برفقة أصدقاء المنتدى، وكان دائماً لطفه وإفادته كافيين لتبرير هذا المجهود الذي لم يكن أهله يفهموه قط، لهذا اهتمت والدته بحضور ندوة د.أحمد حين أتى إلى طب أسيوط عام 2009. كان الكبار مندهشين من وجود مئات الشباب في أسيوط الذين ملئوا المدرج لآخره لأجل هذا الذي يسمعون اسمه للمرة الأولى.

يذكر الولد جيداً شعور التحقق الذي شعر به حين كتب له د.أحمد خالد ذات مرة «تسلم كيبوردك يا محمد» لإعجابه برأيه في مناقشة ما.

في ندوة ما بمكتبة ضيقة كنا نجلس أمام د.أحمد على الأرض. نظر إلينا وقال بود حقيقي «انتو شلتي»..

سيدرك محمد فيما بعد أن هذا الوسط أو الشلة كانت بالإضافة إلى «شلتين» أخرتين في مجالات مختلفة، هي «الحاضن الاجتماعي» الذي انتزعه من حاضنه القديم، ليمر بمراحل جعلته ما هو عليه الآن.

د.أحمد.. شكراً لأنك ممن جعلوني أنا.

(4)

أتت الثورة وأتى معها السقوط.

بسرعة عرفنا أن كثيرا ممن رفعناهم سقفاً فوق رءوسناً ليحمونا قد انهاروا فوقنا.

أغلبهم انحاز بوضوح لجانب من يقتلنا، نحن أبناؤه المفترضون، وبعضهم تجاوز ذلك لسُبابنا نحن جمهوره السابق، فشاهدنا من وصف الشباب بأنهم «مخنثون» وتافهون، ومن ينتقد الأسر التي «غابت فيها التربية والأدب والتهذيب، فأنتجت شبابا لا تكترث بما تفعل، تندفع دون روية وتخرج من بيتها دون رقابة»!

وسط كل هذا العفن والقرف يبقى د.أحمد يكرر مراراً في مقالاته حديثه عن نموذج الولد رامي «المثقف خبير الإنترنت، الذي يحمل كاميرا صغيرة وحقيبة على ظهره ويهتف في ميدان التحرير» في مواجهة نموذج «سيد حبارة» المواطن المنافق لكل الحكام، المنحط، الفاسد، الجاهل. دائماً يعلن انحيازه لـ«رامي» وأمنيته أن «يغير رامي كل شيء حتى جيلي نفسه».

وحتى حين اختلف مع بعض قراءه في مواقف سياسية مختلفة، منها مثلاً اعتراضه على أنشطتنا المعارضة للمجلس العسكري، كان هذا دائماً بصيغة الأب الحائر أمام المشهد المرتبك، وأيضاً الخائف على أبناءه.

تحدث بلهجة الأب الذي يحاول اقناع ابنه، بينما تحدث (آخرون) بلهجة ظابط المخابرات الذي يحتقر هذا الابن!

يمكن للأب والأبناء أن يختلفوا، أو يغضبوا، لكنهم أبداً لا يعادون بعضهم.

يمكن أن يراه بعض أبناءه كان مصيباً وحكيماً أكثر مننا في كل شيء، ويمكن أن يراه فئة أخرى من أبناءه «أخطأ التقدير» في بعض الأمور، لكن أبداً لم يره أحدهم أبناءه ساقطاً أخلاقياً، أو باع العِشرة معنا، أو شمت في دماءنا.

بعد أحد أكثر مقالاته إثارة لانتقاد قراءة من فئة الشباب الغاضب «كان يا ما كان»، كان المقال التالي هو «الموافي يهدم الدولة» عن صديقنا المعتقل عبدالرحمن موافي، وصديقنا الآخر الذي فقد عينه محمد عيد.

د.أحمد.. شكراً لأنك حافظت على كونك أنت.

(5)

في معرض الكتاب الأخير، شاهدت طابوراً طويلاً لا ينتهي من الشباب المنتظرين لتوقيع د.أحمد، بقى الدكتور يوقع من 2 ظهرا حتى موعد الإغلاق 7 مساءا.

قلت له «أنا كنت باقف قدام حضرتك في طابور زي ده، بس كان أقصر».

أغلب الواقفين في الطابور الأسطوري صغار السن جداً، طلاب إعدادي وثانوي وحديثو الدخول للجامعة، واكتشفت أن العديد منهم قادمين من محافظات بعيدة خصيصاً لذلك اليوم.

شعرت بالسعادة، جيل جديد جاء بعدنا، من هذا الطابور سيخرج أفضل وأكثر ممن خرجوا من جيلنا.

أستطيع أن أعدد عشرات الأسماء لتلاميذ وقراء د.أحمد منتشرون الآن في كل مجالات الكتابة الأدبية والصحفية والسينمائية، والعمل العام الاجتماعي والسياسي، بعضهم يعرفه د.أحمد ويدعمه بشكل شخصي أو عام بذكره في حواراته وكتاباته، وبعضهم لا يعرفه مطلقاً، ومن الواضح أن الظاهرة ستتكرر مع الجيل القادم على نطاق أوسع بحكم اتساع الفرص المتاحة حالياً.

د.أحمد.. شكراً لأنك تجعل المستقبل أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock