رؤى

عالم التقنية.. انتهت الغايات ولم يبق غير الوسائل

يقسم الفيلسوف الفرنسي لوك فيري العولمة إلى حقبتين: الأولى تبدأ مع عصر الأنوار وظهور الفلسفة الديكارتية. في هذه الحقبة ساد التفاؤل بمستقبل أفضل للإنسان، تغذي هذه الروح وعود وغايات كبرى متعالية، تضمنت الحرية والسعادة ورفاهة البشرية، تحقيق ذلك عبر السعي لمزيد من السيطرة على قوى الطبيعة.

 

هذا الطموح تراجع، كما ذهب فيري، مع تحول السعي إلى تنافسية دائمة في كل المجالات وفي جميع الاتجاهات، بين الدول والثقافات والمؤسسات والمراكز البحثية والجامعات..إلخ، ليبدأ عصر العولمة الثاني مع منتصف القرن العشرين، حيث أصبحت المجتمعات مدفوعة لا بفعل الطموح إلى سعادة وتحرر ورفاهة البشرية بل بمنطق البقاء والتكيف والإكراه الآلي على التطوير الدائم المستمر حتى لا يخرج الفاعلون من المنافسة، على نحو شبيه بالانتقاء الطبيعي لدى داروين، فمن يعجز عن المنافسة محكوم عليه بالزوال.

يقابل أطروحة فيري عن حقبة العولمة الثانية ما يسميه هيدجر عالم التقنية،  حيث لا وجود للغايات، فهو عالم الوسائل بامتياز، أفراده معنيون فقط بتطوير الوسائل أو “قوى الإنتاج” بالتعبير الماركسي، لينتهي التطوير إلى المزيد والمزيد منه، ومن يسعى للإفلات من هذه الدائرة مصيره الهامش.

هذا معناه أن المنافسة قد حلت محل الغاية أو المعنى، فعلى المؤسسة أو الفرد أن يطورا دوما من أدائهما وأدواتهما، دون الحاجة لمعرفة لماذا أو من أجل ماذا، ليتمثل الفرد وفق تلك الرؤية توصيف هيدجر، باعتباره “موظف التقنية”، ويفتح ذلك المجال أمام سمة رآها هيدجر أنها ملازمة لعالم التقنية، وهي غياب الاختلاف، حيث يقوم نوع من التنظيم داخل المجتمع التقني، تسوده التراتبية التي تُنشئ تمايزا ظاهريا، لا يخفي أحادية الاستجابة وانضباط الإيقاع، وفي أعلى مراحل التقنية، أي في عصر الإعلام، يتعولم الوجدان، فيسود الحزن مثلا في مختلف أنحاء العالم على صحفيي جريدة “شارلي” الفرنسية، وتنفعل الجماهير فتنطلق صيحاتها في ذات اللحظة احتفاءً بهدف في مباراة لكرة القدم.

أما عن علاقة العلم بالتقنية، فعلى خلاف ما قد يتصوره أو يذهب إليه البعض، من أن التقنية ما هي إلا تطبيق للعلم، ينفي هيدجر هذا التصور، ويحاججه بأن ما توصل إليه الإنسان “من اكتشافات واختراعات تقنية قد تحققت بمعزل عن العلم، أي لم تدن للعلم بشيء، فالذين قامو بها لم يكونوا علماء، ولم يدرسوا نظريات علمية معينة، ثم طبقوها فأتاح لهم تطبيقها التوصل إلى اختراع جديد، بل كانوا صناعا مهرة توارثوا خبراتهم جيلا بعد جيل، وأضافوا لها من تجاربهم الخاصة فتطورت صناعتهم ببطئ شديد، مما جعل الانتقال من عصر إلى عصر يستغرق آلاف السنين”، وهذا امتد من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما يظهر في اكتشاف البارود واختراع الطباعة على سبيل المثال.

هذه الرؤية بطبيعة الحال لا تمنع هيدجر من الاتفاق مع برجسون في أن “التقدم (التقني) الذي كان بطيئا في البداية، قد سار بخطى سريعة عندما ظهر العلم على المسرح”.

وامتدادا لحديث هيدجر حول علاقة العلم بالتقنية، يميز الفيلسوف الألماني بين التقنية قديما وحديثا، فقديما كانت اختراعات تقنية كالمركب الشراعي والطاحونة الهوائية، لم يكن ليعملا في غياب الرياح، أما المنجزات الحديثة كالطائرة والسيارة فليست بحاجة إلى الاعتماد على أي عنصر من عناصر الطبيعة لتشغيلها، إذن فالتقنية الحديثة “تأمر الطبيعة، أي تخضعها للعقل”، وبحسب هذه النظرة يفهم هيدجر التقنية الحديثة على أنها طلب موجه إلى الطبيعة لأن تكشف عن أسرارها وحقيقتها “التي بدونها يظل وجودنا فقيرا وخاضعا”.. هذه الإمكانية لم تتوفر للتقنية قديما، حيث لم يكن هناك وجود للعلوم الدقيقة، كما أن الاختراعات والاكتشافات كانت تقع كيفما اتفق (بجانب محدوديتها) على عكس الحديث منها الذي يقوم على مبدأ التراكم.

التقنية إذن، لدى هيدجر، في معنى من معانيها “تحريض يخطر الطبيعة لتسلم طاقة يمكن استخراجها وتجميعها”.

هذا الوجه من وجوه التقنية لا يخفي هيمنتها على الإنسان، بعد أن تنبه الحلم الديكارتي في تسيد الإنسان للطبيعة عبر التقنية إلى أنها تعمل بعيدا عن إرادته،  تستعمله في ظل سعيها المحموم للتطور المستمر.

 إنها الفخ الذي صنعه الإنسان ليقع فيه، وهو ما جعل هيدجر يحذر بأن التقنية الحديثة تحاول إعدام وجود الموجود، وأنها بتعبيره تحمل قلق الموت إن لم يكن بداية العدمية، وهو ما يجعلها بحسب الرواية الهيدجرية نهاية لكل ميتافيزيقا.

Mohamed.altanawy1@gmail.com

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock