منوعات

شم النسيم.. ربيع المصريين

يقال عن المصريين أنهم شعب (فرايحي) بمعنى أنهم يعشقون الاحتفال والمرح، ويتربصون للفرحة هربا من هموم الواقع وانشغالاته كلما واتتهم الفرصة، وحين حاول الفاطميون إدخال مراسم الاحتفاء اللطمية بيوم عاشوراء أثناء وجودهم بمصر لم يفلحوا في ذلك، وحول المصريون عاشوراء إلى يوم يحمل البهجة ومشاعر الود والمحبة، وبات طبق العاشوراء من أخص الأكلات عند المصريين. 

وإذا كانت الأعياد والمناسبات الاحتفائية عادة ما ترتبط بالأديان، فأعياد الفطر والأضحى وعاشوراء وغرة رجب والإسراء والمعراج مناسبات دينية إسلامية، تناظرها عدد من الأعياد التي يحتفي بها أتباع المسيح عليه السلام كالقيامة والغطاس والميلاد المجيد، غير أن ميل المصريين إلى أجواء البهجة والاحتفاء بقدوم الربيع تجاوز ثنائيات الأديان، ليصبح شم النسيم عيدالمصريين جميعا، يخرجون فيه إلى المنتزهات والحدائق العامة وضفاف النيل.

لا يكترث المصريون كثيرا بالفتاوى الدينية المتشددة التي تنطلق من هنا ومن هناك تحرم على المسلمين الاحتفاء بهذا اليوم، بل باتت مثل هذه الفتاوي موضعا لنكاتهم وسخرياتهم من عقليات جامدة لا تعرف كيف تستمتع بالحياة.

الاحتفال بعيد شم النسيم يعود إلي ما يقرب من 4700 عام، فهو أحد أعياد مصر الفرعونية، وترجع تسمية شم النسيم إلي الكلمة الفرعونية شمو، وهي كلمة هيروغليفية يرمز بها عند قدماء المصريين إلي بعث الحياة. طقوس الاحتفال بشم النسيم تعود إلى أواخر الأسرة الثالثة الفرعونية، وتعكس رمزية حياة وانبعاث جديد، وفق ما ورد في برديات وجداريات تسجل الاحتفال بالعيد الذي تعود بداياته إلى عام 2700 ق م.

أطلق الفراعنة على شم النسيم اسم (عيد شموش) أى بعث الحياة، وحٌرِّف الاسم في العصر القبطي إلى (شم)، وأضيفت إليه كلمة النسيم نسبة إلى نسمة الربيع التى تعلن وصوله. ويحفل احتفال المصريين بشم النسيم بالعديد من الطقوس والعادات، وفي مقدمتها الخروج في جماعات إلى المتنزهات والحدائق حاملين طعامهم وشرابهم، ليقضوا اليوم في الاحتفال بداية من شروق الشمس حتى غروبها، ويتفننون في تحضير الأطعمة المعروفة فى هذه المناسبة وتلوين البيض وتجهيز الرنجة والفسيخ والبصل والسردين، وتتزين الفتيات بعقود الياسمين «زهر الربيع» ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، ويمضون  الوقت في الرقص على أنغام الناي والمزمار والقيثار، وترديد أغنيات عيد الربيع.

وبدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع (شم النسيم) مع بداية العيد الفرعونى نفسه، حيث يرمز البيض إلى خلق الحياة، وصوَّرت بعض برديات منف الإله «بتاح»، إله الخلق عند الفراعنة، وهو يجلس على الأرض على شكل بيضة شكلها من الجماد، كما ورد فى متون كتاب الموتى وأناشيد أخناتون الفرعونىية. وكان المحتفلون ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض في سلال من سعف النخيل يعلقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الأشجار لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم.

أما عادة تلوين البيض بمختلف الألوان، التي باتت تقليدا متبعا في جميع أنحاء العالم، فتعود إلى فلسطين عندما أمر القديسون أن يصبغ البيض باللون الأحمر ليذكرهم بدم المسيح الذى سفكه اليهود، حسب معتقدات الديانة المسيحية، وانتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليها الأقباط بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والطقوس الفرعونية.

أما السمك فهو رمز الخصوبة عند الفراعنة، وكانوا يضعون مع المتوفى فى مقبرته الفسيخ لأنه يتحمل التخزين، اعتقادا منهم أنه إذا عاد للعالم الآخر يجد ما يأكله، ويصنع الفسيخ من السمك البوري الذي يضع بويضاته فى مثل هذا الوقت من العام، فاعتبروه الأنسب للاحتفال بالربيع، وسجل «هيرودوت» المؤرخ اليوناني الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد أن المصريين كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم. فيما كان البصل الأخضر رمزا لإبعاد الشيطان عند المصريين القدماء، اعتقادا في رواية تحكي أنه كان سبب شفاء أحد الملوك وخروجه من إغمائه بعد شم رائحته النفاذة.

ويعكس حرص المصريين على الخروج إلى النيل في عيد الربيع وكافة مناسباتهم السعيدة اعتقادهم الراسخ بأن النيل هو شريان الحياة، وهناك قول مأثور منسوب إلى امنحتب يقول: «إذا مرض النيل مرضت مصر، فهو سلاحها في مواجهة خطر الفناء». وكان المصريون يحتفلون بعد شم النسيم مباشرة بيوم «طهارة القلوب» وهو يوم المصالحة بين المتخاصمين ونسيان الأذى، وكانوا يحتفون به بتبادل تقديم فطيرة مزينة بالفواكه والزهور ترمز إلى المحبة والمصالحة.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock