رؤى

الدين الشعبي مسكن لآلام الهزيمة

اعتادت الإدارات الأمريكية المتعاقبة توظيف اليمين المسيحي لخدمة أهدافها السياسية. وفي سعيه لاستعادة شعبيته المتراجعة والخروج من أزمته السياسية الداخلية لجأ ترامب للسلاح ذاته حين أصدر قراره الأخير بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس.

كان استطلاع حديث أكد أن 82 % من الإنجيليين الأمريكيين البيض،البالغ عددهم حوالي 50 مليونا، لايزالون يؤمنون بنبوءة “نهاية الزمان”، التي تقول إن اليهود سيسيطرون على القدس بأكملها، ما يتسبب في نشوب حرب كبرى بين الحضارات، ويضطر اليهود إلى الاختيار ما بين اعتناق المسيحية، أو أن يحِل عليهم غضب الله.

في المقابل يتم اللجوء لنبوءات أحاديث آخر الزمان في عالمنا العربي والإسلامي كجزء من دين شعبي كامل يعمل كمسكن لآلام هزائمنا المتتالية، بل وتبريرها باعتبارها قدر إلهي لا راد له. وكان شادي حميد الباحث في معهد بروكنجز الأمريكية رصد منذ عام 2014 كيف استخدمت داعش النبوءة كنداء تعبوي للقتال منذ أن استولت على قرية دابق السورية مستندة إلى حديث منسوب للرسول الكريم يقول: “لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق”.

الخطاب الأكثر انتشارا

تحتل الكتب والتسجيلات الصوتية والمرئية المعبرة عن خطاب نبؤات ملاحم آخر الزمان مكانة متقدمة لدى جمهور القراء والمستمعين ومتابعي الإنترنت ، لدرجة أن بعض الكتب استحقت لقب “الكتاب الجوكر” بلغة الناشرين لسنوات عديدة، ويلاحظ أن هذا الانتشار للخطاب لا يقتصر على تلك المصادر الإعلامية الحديثة، بل إنه يمثل جزءا معتبرا من التاريخ الشفاهي بالمعنى الواسع للكلمة الذي يتداخل فيه صحيح الدين بغيره، والنصوص القرآنية بالأحاديث النبوية بكل درجاتها، وكذلك بالطيف الواسع المتنوع لما يعرف بتراث الثقافة الإسلامية الذي يختلط فيه الوعى الشعبي الفضفاض وغير المنضبط علميا بالمصادر الدينية والثقافية للمسيحية واليهودية والثقافات الشعبية بكافة مواردها المجتمعية التي عادة ما تختلط فيها الحقيقة بالخيال الشعبي المتأزم والمتوهج في آن واحد.

يحتمل التدين الشعبي وما يصاحبه من رؤية كلية للوجود وماوراء الوجود ذلك كله وأكثر، بل إنه يتبناه باعتباره “الدين” – بألف ولام التعريف – فهو نوع من التدين غير المنضبط بقواعد العلوم الإسلامية المتعارف عليها في أروقة الدرس الديني.والأهم هنا أن خطاب نبؤات وملاحم آخر الزمان يحتل مكانة أساسية ضمن بنية هذه الرؤية الشعبية الكلية، باعتباره الخطاب الأكثر كفاءة في تقديم تفسيرات للأحداث السياسية الكبرى التي واجهت المسلمين في العقود الأخيرة مقارنة بالخطاب السياسي والإعلامي السائد الذي يفتقر للمتابعة والمصداقية ناهيك عن القدرة على الإشباع والإقناع.

تفسيرات معرفية وسيكلوجية

ذاع خطاب نبؤات آخر الزمان كمفسر للأحداث الكبرى في المنطقة خلال العقود الأخيرة، أو بالأحرى تم استدعاؤه من ركام تراث ظل منسيا لقرون، لشغل الفراغ المعرفى الناتج عن غياب تفسيرات علمية موضوعية كافية لعودة الغزو والاحتلال الغربى بأشكال مختلفة للمنطقة، وكرد فعل على ماعاناه المواطن العربي المسلم من عدم قدرة على ملاحقة الأحداث الجسام التي أصبحت تتسارع بدرجة غير معهودة بالمقارنة بفترات تاريخية سابقة. من ناحية تفاجئ تلك الفواجع المواطن العادى دون تمهيد ولا تفسير موضوعي مقنع، ومن ناحية أخرى  فإن مناظرات الرأى أيديولوجية الطابع والتي تعج بالمعلومات المغلوطة والمتضاربة تزيد من تشتت وحيرة هذا المواطن. كل هذا خلق حاجة جماهيرية ملحة لتفسير معرفى متكامل، أيا كانت طبيعته، لمجمل الأحداث الكارثية المفاجئة التى ألمت بالمنطقة.

ذيوع هذا الخطاب لا يرجع فقط إلى الرغبة فى سد الفراغ المعرفى التفسيرى، لكنه يرجع أيضا لتلك الوظيفة السيكولوجية التى يلعبها هذا الخطاب فى استعادة النفوس القلقة لبعض من التوازن ولو من خلال تصورات هى أقرب للوهم منها للواقع، فثمة عوامل متشابكة أدت إلى دخول أعداد متزايدة إلى دائرة القلق والإرهاق النفسي نتيجة التعرض لفترات طويلة للضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية المتزايدة، إضافة لإشاعة شعور عام باستهداف المنطقة، البلد تلو الآخر، ضمن مؤامرة عالمية، وانتشار صور العنف والمظالم ووصولها أولا بأول إلى المشاهد العربي المسلم في عصر الصورة والإلحاح الإعلامي، وهو عامل مؤثر لم يكن موجودا من قبل.

فى ظل هذا المناخ الضاغط والغامض وغير المفهوم والذي لا تظهر له نهاية فى الأفق، يأتى خطاب نبؤات وملاحم آخر الزمان في صورة مؤامرة عالمية تجسد القدر الإلهى، حيث يقوم الخطاب بعملية إزاحة مزدوجة، الأولى إزاحة فى المسؤولية، إذ يرفع هذا الخطاب مسؤولية مواجهة هذه التحديات- التى تبدو فوق الطاقة- عن كاهل الفرد والجماعة العربية والمسلمة باعتبار أن هذه الملاحم لابد أن تأتى فى آخر الزمان كتجسيد لحكمة لا يعلمها إلا الله. كما يقوم الخطاب أيضا بعملية إزاحة زمنية ليتم ترحيل لحظة المواجهة المنتظرة إلى آخر الزمان فى الملحمة الكبرى الأخيرة حيث الانتصار المؤزر للمسلمين، وهى لحظة مستقبلية تتصف بالحتمية الإلهية حيث لا دور للعربي أو للمسلم نفسه في الإعداد لها.

مصداقية غير مستحقة

من ناحية أخرى يحظى الخطاب لدى العامة بمكانة ومصداقية معتبرة، وتصدر منتجاته عن مؤسسات لا غبار عليها ولا مبرر لتشكك القارئ المسلم العادي فيها، كما أنها مطروحة فى الأسواق ومنشورة على فضاء الإنترنت بشكل علني وتتمتع بأرقام إيداع وترقيم دولي، ولم يسمع أن الأزهر أو أى مرجعية دينية فى أنحاء العالم الإسلامي اعترضت بشكل واضح ومؤثر على أى مصنف منها، بل إن بعض هذه الإصدارات يصدر ممهوراً بشهادة رسمية صادرة عن الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تفيد أن الكتاب “ليس فيه ما يتعارض مع العقيدة الإسلامية ولا مانع من طبعه ونشره”. وما يزيد من ثقة القارئ والمستمع فى هذا الخطاب حرص أصحابه على إبراز مصادره الإسلامية وتأكيدهم المستمر على أنه “يعتمد على الأدلة الصحيحة والآثار القوية واضحة الدلالة من الكتاب والسنة”.

تكتسب الظاهرة أهميتها وخطورتها إذن من كونها ظاهرة ثقافية ذات وجود وتأثير فى أوساط بعض قطاعات المجتمع، لا لكونها تمثل فهماً صحيحاً للدين بكل تأكيد، إذ يعتمد خطابها على بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – ومعظمها وارد فى كتاب “الفتن” لنعيم بن حماد، وينتقد العديد من علماء الدين الثقات المعاصرين هذا المسلك، حيث يصفون الكتاب بأن أغلب أسانيده ضعيفة بل إن بعضها من الضعف الشديد بحيث لا يجوز الاحتجاج بها بحال من الأحوال. وبينما يركز أصحاب الخطاب على أن إبن حماد هو أحد شيوخ البخاري فإن العلماء يصفونه بأنه ضعيف، فشيوخ البخاري ليسوا كلهم ثقات، لذلك لم يرو البخاري شيئاً من هذه الأحاديث فى صحيحه وهو ما يتناقض مع تدليس أصحاب الخطاب على متابعيهم حين ينسبون هذه الأحاديث النبوية لابن حماد ثم يردفون ذلك بأنه أحد شيوخ البخاري، هكذا دون تفصيل أو توضيح،  فتنتقل المصداقية فورا من البخاري إلى إبن حماد وأحاديثه ويتم تعميم المصداقية على الخطاب برمته، وهى عملية يساعد عليها أن هذه المطابقة “السحرية” الطابع بين النص والواقع تلقى هوى في نفس المسلم المضطربة وعقله المرهق. الأهم من ذلك أن هذه الطريقة فى التعامل مع نصوص منسوبة للنبى – صلى الله عليه وسلم – تعد نزولاً من سمو عقلانية الإسلام الذي لم يعتمد على “المعجزة” بقدر ما اعتمد على بيان النص القرآني والحديث الشريف ومخاطبته للعقل الإسلامي المجتهد فى حل مشكلاته المتجددة عبر الزمن، لا مجرد البحث عن إجابة حرفية جاهزة عنها فى النص.

فؤاد السعيد

كاتب وباحث مصري متخصص في الثقافة السياسية felsaid58@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock