رؤى

داعش .. الموت في خضم الملحمة

تحمل داعش في جوانبها الكبرى “طابعا مهدويا”، يجسد عالم النهايات الذي يضع الحضارة والإنسان على حافة الهاوية انتظارا للحظة القيامة والنهاية حيث يختفي ذلك العالم المليء بالظلم والقهر وغلبة الأقوياء وعلو المادة وسيادة السوق والحضارة الرأسمالية بكل ماديتها على حساب الإنسان لصالح المال ومن يملكونه في مواجهة من لا يجدونه.

لا تخلو أدبيات داعش من تضمين لما يطلق عليه في كتب الحديث  والسيرة أحاديث آخر الزمان، وهذه الأحاديث تركز على نهايات العالم وكيف ستكون في صراع كبير بين جيوش الكفر وجيوش الإسلام، وستكون هذه المقاتل الكبرى في قرية “دابق” وهي القرية التي شهدت المعركة بين جيش المماليك بقيادة قنصوة الغوري آخر حكام مصر المماليك، وبين جيش سليم الأول العثماني المعروف بياوزلدي الترك، وتعني القاطع، وهزم فيها الغوري مقتولا منهيا بذلك حقبة المماليك ومدشنا لمرحلة حكم العثمانيين لمصر عام 1516، من هنا أطلق التنظيم على مجلته “دابق” للأهمية الرمزية في عالم النهايات ذات الطابع المهدوي، فالأحاديث تقول “لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق”.. واتخذ داعش من الأعماق عنوانا لوكالة الأنباء الرئيسية التي تبث أخباره. والأعماق موقع آخر قرب حلب كما يذهب النووي،  وهي ضمن الحدود التركية الآن ضمن منطقة أنطاكية، ويؤولون أحاديث آخر الزمان عن توحد التحالف الذي تقوده أمريكا في مواجهة داعش، ويقولون هناك تقع الملاحم قرب غوطة دمشق، حيث يجتمع الروم في ثمانين غاية في كل غاية اثنا عشر ألفا، لذا لما قيل إن التحالف ثمانين دولة فرح أهل داعش واعتبروا ذلك علامة على صحة تأويلهم، وكما هو معلوم فإن المهدوية الداعشية اعتبرت الشام هي مجال تحقق الملحمة الكبرى والمواجهة العاتية مع الغرب بمعناه الواسع بما في ذلك روسيا وأوروبا وأمريكا، كما اعتبرت أن الشام هي المجال لتحقق نصر المسلمين على الغرب وظهور عيسى بن مريم وقتله الدجال، حيث يقتل آخر عنوان للشر في العالم.

الموت المتجاوز

تقود الملاحم إلى ما أطلق عليه هنا “الموت المتجاوز”، أي الموت في خضم الملحمة، فيا سعد من حضر الملحمة وعاش لحظة التجلي الكبري لها، ومات في تلك اللحظة الملحمية.. وهذا ما يفسر استخدام داعش الواسع للانتحاريين في مواجهة الخصوم حيث يمكنهم تدمير خطوط المواجهة للقتال وجعلها مفتوحة. وقائع التاريخ تقرر أنه لم يتم استخدام الإنسان كأداة للموت والانتحار في أي حركات اجتماعية سابقة على داعش، فالمعلوم لدي الإسلاميين السابقين لأجيال داعش أنهم لم يتعمدوا أبدا الموت، باعتبار أن ذلك انتحارا، وكانوا يتحاشون جعل أنفسهم أداة للموت، أما داعش فإنه يؤسس لاستخدام الإنسان كأداة للموت في صراع بين طرفين، أيا كان، فإن فيه جزء دنيوي حتى لو كان تحقيق الخلافة ذاتها لجماعة تسعى لتحقيقها، هنا الدنيا تصبح سببا لموت الإنسان الذي كرمه الله تعالى وجعل حمايته والحفاظ على نفسه غاية دينية.

من هنا يكون البعد الديني متراجعا في القصة، بينما يقفز البعد الخيالي المهدوي الذي ينظر للموت باعتباره غاية وهدفا في ذاته تحديا للتحضر والحياة الإنسانية والعصر بحثا عن تدمير هذا الشكل الحضاري عودة لحالة البدائية الأولي التي يكون الإنسان فيها والقوة العضلية والجسدية هي الأداة الرئيسية للمواجهة. هل الشعور بتحقيق الإنسان الكامل عبر موت متجاوز في ملحمة كبرى من أجل خروج سريع نحو جنة واسعة، تفسيرا ملائما وممكنا لاعتبار الموت غاية في حد ذاته لدى أجيال الموت الداعشي؟.

لا تبدو داعش حاملة لأيديولوجيا خاصة بها، وإنما هي ورثت أيديولوجيا القاعدة واختارت من بينها “إدارة التوحش” ليكون عنوانا لعملها وطريقة مواجهتها للنظم السياسية والدول القائمة، وهنا تهدف لتحقيق الفوضى حيث يكون ذلك مجالا مناسبا لأعمالها الوحشية.. أي إننا أمام حركة متوحشة تعود بالإنسان إلى حالة البداوة الأولى ما قبل العقد الاجتماعي تمهيدا لتحقيق الاقتراب من نهاية العالم، وهي بذلك حركة عدمية فوضوية تثير الرعب والفزع وتهدد الحياة والإنسان والعصر.. ولو تابعنا مسارح القتل التي تعمد فيها إلى عملياتها الكبري كما حدث في عملية الباتكلان في باريس، أو حوادث الدهس في نيس أو في برشلونه أو غيرها من المدن الأوروبية فإننا نلحظ خلق قيامة للمستهدفين بالعمليات التي تقوم بها داعش، تنهي وجودهم وتسخر من حضارتهم وتعدهم بقدوم عوالم الفوضى والتوحش للقضاء على ما يعتبرونه عوالم للظلم والسطوة الرأسمالية.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock