ثقافة

سعيد عقل .. مدرسة نسف العمالقة

عاش الشاعر اللبناني سعيد عقل، رحمه الله، قرناً كاملاً وثلاث سنوات، فقد ولد في 4 يوليو من العام  1911 وتوفي في  28 نوفمبر من العام 2014، لم يمت الرجل يوم مات فقد ترك خلفه تركة ثمينة، كان شاعرا وكاتبا مسرحيا ومصححا لغويا وكاتب أغنيات وأناشيد ومشتبكا مع السياسة بمعناها العام ومنظّرا للعروبة في بدايات حياته ثم منقلبا عليها ومنظّرا للفينيقية في ختام رحلته.

بلغ من تطرف الرجل أنه صنع لنفسه أبجدية خاصة مكونة من الحرف اللاتيني ورسومات لحروف فينيقية، هذا التطرف في عدائه لكل ما هو عربي جعله يرّوج لأسطورة عجيبة جدًا، فقد قال في مقابلة له مع جريدة السفير: “هناك ثلاث حضارات عالميّة فقط، اللبنانيّة والرومانيّة واليونانيّة، وثلاث دول فقط عظيمة في العالم، لبنان واليونان وإيطاليا”.

الحالة اللبنانية القائمة على التنوع حد التضاد والتناقض، والتي لا تكاد تجمع على شيء، أفسحت المجال أمام الأستاذ عقل ليقول ما شاء متى شاء وكيف شاء.

تلك المشيئة النابعة من الحالة اللبنانية تسربت بطريقة مريبة إلى الساحة الثقافية المصرية. لبنان هو لبنان، عصفور الحرية أو أيقونة الفوضى المهنّدسة، لكن مصر هى مصر، بلد الرسوخ، أو هكذا يجب التعامل معها، فما يصح في لبنان قد يكون ضارا في مصر.

الأستاذ عقل له غارات مشهورة ضد كل أدباء وشعراء جيله، بل ضد الآباء المؤسسين. وقد وقع في يدي من شهور قليلة كتاب بعنوان ” آخر أمراء الشعر العربي”، من تأليف الشاعر الأستاذ لامع الحر، الكتاب هو حوارات ممتدة بين المؤلف والأستاذ عقل الذي قال في ردوده ما يشيب لهوله الغراب.

سأله الحر عن محمود دوريش، فقال عقل:” لم أعرفه، لم أعرف شعره، ولهذا لا أستطيع مدحه أو ذمه، لم أقرأه”.

عن نفسي لا أصدق أن سعيد عقل لم يقرأ محمود درويش، درويش جرت ترجمته لمعظم لغات العالم وأشعاره موجودة بوفرة على أرصفة الشوارع العربية، وهذا يغري بالقراءة ولو من باب الفضول، الحقيقة أن عقل خشي على نفسه من  هجوم “دروايش” درويش، فلجأ إلى تلك الإجابة المتهربة.

ثم يسأله المؤلف عن محدودية  معجمه، فيرد عقل: “إذا العرب أُعطوا سعيد عقل كل مائة سنة لعاشوا مليار سنة”.. لا أدري لماذا يتحرش الرجل بالعرب وهو الكاره لهم والداعي للكتابة بغير لغتهم وبغير حرفهم؟ .. هو يقول لو أن العرب أنجبوا مثله مرة كل مائة عام لعرفوا طريقهم إلى الخلود.

تلك المغالاة في رؤية الذات والثناء عليها هي التي جعلت عقل يشن غاراته على كل اسم لامع في عالم الشعر خاصة والأدب عامة، فهو يقول عن أمير شعراء العربية في عصرها الحديث، أحمد شوقي: “يكفي أن يكون تغنّى بزحلة”. لمعرفة المفارقة نذكر أن زحلة هي مسقط رأس عقل، ولولا قصيدة شوقي عنها لوصفه عقل بالنجار مثلا وليس بالشاعر.

ثم يقفز عقل قفزته الكبرى التي تنال من شاعر العرب مذ عرف العرب الشعر، يطعن المتنبي شخصيا، ويقول إن شعره أعمق من شعر المتنبي. في موضع آخر يقول للمؤلف أو لقارئ الكتاب: لا تتصور أن المتنبي لديه شعر مقدس ويكرم مثل شعر سعيد عقل. بهذا خرج عقل من إطار تعظيم ذاته ليسقط في حفرة التجني على الآخر وظلمه.

بكل تأكيد المتنبي ليس مقدسا وليس فوق النقد، لكن الإنصاف يحتم أن ننزل المتنبي في حق منزلته. كان أبو العلاء المعري، وهو من هو، إذا أراد الاستشهاد ببيت شعر  يقول: قال أبو تمام كذا أو قال البحتري كذا أو قال بشار كذا، لكن إذا كان البيت الذي يستشهد به من شعر المتنبي يقول: قال الشاعر كذا. فالشاعر عند أبي العلاء هو المتنبي.

درويش شاعر فلسطين والعربية الكبير، جعل شطرا من المتنبي في افتتاحية  ديوانه العظيم “هي أغنية”، وعندما سألوه: لماذا؟ قال: لأني لم أكتب مثله، ولو كتبت مثله لاعتزلت الشعر.

ثم جاء الناقد الكبير الأستاذ الدكتور محمد أبو الأنوار وكلف طلاب الدراسات العليا بكلية دار العلوم بمصر أن يعدوا قوائم بأسماء الكتب التي صدرت عن المتنبي فأعلن الطلاب عجزهم عن إحصائها، مجرد الإحصاء، وذلك لكثرتها ولتشعب اللغات التي تناولت شعر المتنبي بالنقد والدراسة. فأين سعيد عقل، مع كامل احترامنا لتجربته، من هذا الجبل الراسخ الذي نعرفه باسم المتنبي.

تجربة عقل في التجني على الآخرين عرفت طريقها إلى مصر، وهذا ما أشرت إليه في بداية سطوري، فهناك شاب من شباب الروائيين روّج لنفسه بمساعدة أصدقائه ليعلن نفسه فجأة “إلها للسرد”، هكذا أصبح لقبه المعتمد!

من حق المغرور أن يرى نفسه بعين خياله، لكن “إله السرد المصري” رأى أن اكتمال ألوهيته، لا يكون إلا بالتجني على مقام الشيخ الأستاذ نجيب محفوظ، فراح يمطر روائع محفوظ التي جلبت نوبل للأدب العربي  بأسوأ الصفات.

فليرى كل منا ذاته وإنتاجه كما شاء، لكن نسف الآخر لن يجعل من القزم عملاقًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock