رؤى

ملاحم آخر الزمان: تفكيك مغالطات التفكير

يضطر خطاب نبؤات وملاحم آخر الزمان لاستخدام بعض آليات التفكير الكفيلة برتق ثغراته  واستكمال تكوين بنيته الشاملة، وكذلك بهدف اتساق منطقه وتماسكه الداخلي لكي يكون مقبولا من جمهور المسلمين.

1 – آلية توسيع المصادر:

أولى المعضلات التى واجهها اكتمال تكون هذا الخطاب، فقر التراث الإسلامى من قرآن وسنة وأحاديث الصحابة في هذا الباب، ولعلاج هذه المعضلة يتبع أصحاب هذا الخطاب المعاصر عدداً من الوسائل، أولها التفتيش عن أى مصادر إسلامية تتعلق بالموضوع خاصة تلك الأحاديث الغريبة والشاذة غير الموثقة المنسوبة للنبي الكريم ومحاولة إضفاء المصداقية عليها.أما الوسيلة الأخرى فتتمثل فى التوسع في الاعتماد على المصادر المسيحية واليهودية فى باب النبؤات وهو باب واسع وغزير المادة في الديانتين، معتمدين فى ذلك على تأويل عكسي مغلوط لحديث الرسول: “بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج …” وحديث: “إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا”. حيث قلبوا المعنى ليبرروا شرعية إباحة الأخذ عن الروايات والنبؤات الواردة فى هذه المصادر.

ومن أبرز المصادر فى هذا السياق السفر المنسوب للنبى دانيال ويلاحظ أن أصحاب خطاب الملاحم الإسلامى المعاصر يتجاهلون تماماً رفض معظم علماء الإسلام هذا الكتاب، ومن ذلك وصف الإمام القرطبى له بأنه قد “جمع فيه التنافى والتناقض … وأغرب فيما أغرب فى روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يكذب آخرها أولها ويتعذر على المتأول تأويلها وما يتعلق به جماعة الزنادقة من تكذيب الصادق المصدوق محمد – صلى الله عليه وسلم”. والأكثر من ذلك فإن أصحاب هذا الخطاب المعاصر لم يتورعوا عن الاعتماد على نبؤات بعض العرافين من المسلمين والمسيحيين واليهود فى شرق العالم وغربه.

يلجأ خطاب الملاحم “الإسلامي” لمصادر منسوبة ليهود ومسيحيين على حد سواء

 

2 – آلية الإيحاء الدرامي:

يحرص الخطاب على المبالغة فى إظهار نصوص النبؤة وكأنها أيقونات سحرية تتضمن شفرة خفية وإشارات رمزية ينبغى ألا تفوت دلالتها على المسلم الفطن. كما يحرص على إحاطتها بسياج من الغموض والإبهام الدرامى الذى يوحى بخطورتها وأهميتها، ومن ذلك مثلاً إشارته إلى بعض الأحاديث التى يزعم الخطاب أن راويها هو أبو هريرة نفسه ولكنه “خاف أن يحدث بها … ولما أحس بالموت خاف أن يكتم علماً”.

3 – آليتي الاستخفاف والمبالغة فى الوقائع والاستنتاجات:

 ومن ذلك على سبيل المثال استنتاج قرب وقوع (معركة هرمجدون) بين تحالف المسلمين والغرب ضد تحالف الشيوعيين بدليل أن “الصين وروسيا وأتباعهما قد أبرموا المعاهدات وعقدوا الاتفاقيات وتعاهدوا على النصرة (ثم يضيف) بل وزار الرئيس الروسى دولة الصين (والأكثر من ذلك) ومكث فيها بضعة أيام – فى أبريل 1996  – فى تطور غامض وغير مسبوق. ودخل العالم ومنطقة الشرق الأوسط خاصة فى سباق محموم للتحالفات والمعاهدات فتم منها فى بضعة أشهر الأخيرة ما لم يحدث فى قرون طويلة”.

4 – آلية التأويل (غير المشروع)

يواجه الخطاب أحياناً ببعض النصوص التى تتضمن نبؤات لا تتطابق مع الواقع بل تتناقض معه، ويكون الحل هو تأويل هذه النصوص تأويلاً غير مشروع يصل إلى حد “تلوين” النصوص، أى بما  – لا يتفق مع منطوقها المباشر – ودلالتها ومعناه الدارج المتعارف عليه. ومن الأمثلة على ذلك نص الحديث: “يهزم السفيانى الجماعة مرتين ثم يهلك” ومربط الفرس هنا هو لفظ الجماعة التى تعنى عند عامة المسلمين “أهل السنة والجماعة” ولكن صدام حسين الذى اعتبره الخطاب “السيفانى” لم يهزم أهل السنة والجماعة مرتين، ولذلك يضطر أصحاب الخطاب لإعادة تأويل اللفظ وإخراجه عن معناه إلى معنى آخر يحقق الصدق والاتساق المطلوبين لخطابهم، فيأولون “الجماعة” بأن المقصود “جماعة الروم وجيوش الغرب التى اجتمعت لضربه فى العراق”. ويدخل تحت هذه الآلية أيضا انتشار ما يعرف بالإعجاز العددي في القرآن، حيث يتم استخدام الأرقام بكيفية مختلفة كل مرة لتطابق تأويل حدث ما على هوى المتحدث.

5 – آلية الإضافة وسد ثقوب الخطاب:

تواجه بنية الخطاب بعض المشكلات تتعلق بوجود ثغرات تعرقل اكتمالها كما تضعف اتساقها المنطقي، ولا يتورع أصحاب الخطاب فى سياق حالة الحماس النفسى التى تصاحب عملية بناء الخطاب عن إقحام بعض الإضافات غير المستندة – هذه المرة – لأى نصوص. لا يقتصر الأمر هنا على إضافة الخطاب لأفكاره وآرائه وتأويلاته لسد ثغرات الخطاب، ولكنه يتجاوز ذلك إلى قبول بعض الأحاديث التي تحوي ألفاظ حديثة ومعاصرة ومنها على سبيل المثال: حرب كونية – مدنية يورك – التوأم  … إلخ.

 ومن الأمثلة على استخدام هذه الآلية أن بنية الخطاب تتضمن – رغم كل الهزائم – نهاية سعيدة للمسلمين المحبطين مثله مثل كل خطاب جماهيرى مرغوب، وتتمثل هذه النهاية فى الانتصار النهائى الساحق للمسلمين على الغرب المسيحى – اليهودى فى الملحمة الكبرى الأخيرة … ولكن يبقى السؤال المنطقى: كيف يمكن للمسلمين تحقيق هذا الانتصار فى ظل حالة التدهور الحضارى عموماً والعسكرى خصوصاً على جيوش الغرب فى معركة استراتيجية كبرى تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل؟

وحين لا تسعف النصوص القابلة للتأويل “غير المشروع” الخطاب لحل مثل هذه المعضلة الواقعية الكفيلة بهدم بنية الخطاب واتساقه، يتبرع الخطاب بالإشارة إلى أن “معركة هرمجدون (التى تسبق الملحمة الكبرى)… ستكون  حرباً مدمرة نووية تفنى معظم الأسلحة الاستراتيجية، وتعود الكلمة المسموعة، فى الحروب بعد للسيوف والرماح والخيل … ( ثم يدعم إضافته بقانون التاريخ مردفا) … ولا عجب فى ذلك فإن السنة الكونية المطردة فى الحضارات القديمة كلها الفناء بعد الازدهار والسقوط بعد العلو”.

6 – آلية “الحنين إلى الماضي”:

وهو ما نلاحظه فى المثل السابق ذاته، إذ يتضمن تخيل الملحمة الكبرى الأخيرة كحرب تعود بالبشر إلى التلاحم الجسدى المباشر حيث يسمع صليل السيوف وصهيل الخيول، وهو ما  يتضمن نوعاً من النوستالوجيا أو الحنين إلى ذلك الماضى الذى شهد انتصارات العرب المسلمين الأوائل فى غزواتهم، إضافة لما ينطوى عليه من نزعة بدائية تستعذب هذا النمط الأولى من الحروب المتلاحمة، وهى نزعة يبدو أنها لاتزال أقوى لدينا من أى نزعة مقابلة تفترض بذل الجهد وإعمال العقل وتوظيف العلم كطريق للدفاع عن الأوطان فى حروب حديثة ومواجهات حضارية شاملة.

فؤاد السعيد

كاتب وباحث مصري متخصص في الثقافة السياسية felsaid58@gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock