في لحظات الضعف والانهزام الساحق، كما القوة المفرطة، عادة ما يتم استدعاء المطلق المفارق للتاريخ ليحل في الزمان والمكان المناسبين، فقد يصدق البطل المنتصر أكذوبة التحول إلى إله أو نصف إله كما حدث مع الإسكندر، وقد يلجأ المنهزم في لحظات العجز والضعف إلى استدعاء قوة ما من خارج الزمان والمكان بإمكانها رفع الألم وتحقيق المظالم، تتجاوز قوانين الأسباب والعلل الطبيعية لتتناسب مع ما يبدو خارقا ومحبطا من وجهة نظرها.
هكذا حلت فكرة “المنتظر الغائب” في التاريخ الإنساني، ففي حديث أجراه سجين ظل رهين محبسه منذ مطلع الثمانينات وحتى سنوات قليلة مضت، وبعد أن أوغل في سرد ما تعرض له ورفاقه من قمع وتعذيب في غياهب السجون، سأله المحاور: إلى أي حد وصل بكم التعذيب؟ أجاب السجين: إلى حد أن أصبح لدينا اثنين من المعتقلين في نفس العنبر (قسم من السجن) يدعي كل منهما أنه “المهدي المنتظر”.
لماذا يستحضر هؤلاء شخصية المهدي المنتظر في نفوسهم، وهي شخصية مفارقة للتاريخ، دون غيرها من شخصيات صنعت مجدا تاريخيا حقيقيا في اقتناص الحرية لبلدانها؟ لا نستطيع أن نجزم بشكل كامل متى بدأت الفكرة تجلياتها التاريخية، لكن المؤكد أن الفكرة تزداد توهجا في فترات تاريخية تشهد تسلط فئة باغية أو فسادا اجتماعيا يقابله شعور باليأس من القدرة على رفع الظلم أو إحداث إصلاح داخلي في بنية النظام الفاسد.
فكرة قدوم إمام غائب يأتي لإصلاح ما فسد تتمتع بحضور ملحوظ أيضا عند ديانات سابقة على الإسلام، سواء ديانات وضعية كالبوذية أو الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، ففكرة المهدي المنتظر في الإسلام توازي فكرة المسيح المنتظر عند اليهود، أو الرجعة عند المسيحيين، فيما يعتقد أتباع الديانة البوذية في عودة بوذا ليعيد البركة والسلام إلى الأرض.
تستند فكرة المهدي المنتظر في الإسلام إلى روايات عن أحاديث نبوية شريفة تحدثت عن شخص يأتي آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، ويقسم المال صحاحا، أي بالتسوية بين العباد، ويملأ نفوس العباد غناء، ويقاتل الدجال مع النبي عيسى عليه السلام. وتنسب هذه الروايات إلى النبي (ص) قوله إن اسم المهدي المنظر يوافق اسمي النبي الأول والثاني، محمد بن عبد الله، هذا إن صحت نسبة الأحاديث الواردة في هذا الصدد.
تحظى الفكرة بالرواج بين المسلمين على اختلاف طوائفهم، ويقول ابن خلدون في تاريخه “اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الاَعصار، أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الاِسلامية، ويسمى المهدي”. فالإمام الغائب عند الشيعة الإمامية، الذي يرون تمثله في شخص الإمام الحسن العسكري، ليس سوى المهدي المنتظر عند مسلمي السنة. وعبر التاريخ الإسلامي ظهرت شخصيات دينية عدة ادعت كونها المهدي المنتظر كميرزا غلام أحمد القدياني، وكثيرين من قادة الحركات الباطنية الإسلامية.
بين القبول والرفض
حضور الفكرة بهذا التنوع في المسميات عبر التاريخ الإنساني صاحب فترات تسلط واستقواء من طرف يقابله شعور بالعجز والضياع من طرف آخر، وبالتالي اللجوء للبحث عن قوة ناصرة ولو من خارج التاريخ، ما يفسر لنا لجوء سجناء سياسيين ذاقوا ويلات التعذيب على أيدي جلاديهم لادعاء كونهم المهدي المنتظر، رغم إدراك كل منهم على حده أن المهدي شخص واحد، لكن يبدو أن من الظلم ما يحتاج إلى أكثر من مهدي.
صحيح أن بعض هؤلاء ربما تعرضوا بسبب التعذيب إلى ضعف أصاب قدراتهم العقلية، لكنهم لم يفقدوا الأمل تماما في تحقيق عدل آمنوا أنه ميزان الكون، وأنه قادم بقدرة العادل لا محالة، فكان استحضارهم لشخص المهدي المنتظر استقواء بقوة خارجية خارقة عندما فقدوا الأمل في قدرتهم على رفع الظلم بأيديهم.
هذا السبب نفسه هو ما دفع بعض أشهر علماء الإسلام الإصلاحيين إلى رفض فكرة المهدي المنتظر، واعتبارها مدعاة للتواكل والتهرب من واجب مواجهة الطغيان ومجابهة الظلم، وانتفاء لفاعلية المسلم المكلف من الله بإعمار الكون وتحقيق العدل والخير للإنسانية بأسرها. من أبرز مفندي فكرة المهدي المنتظر العلماء محمد رشيد رضا، وعبد الله السمان، ومحمد الغزالي.
وهناك من يرفضها أيضا بمنطق الفكر الوضعي، ويراها هروبا من الواقع وتعطيلا للعقل المسلم وتكريسا لمنطق التفكير الغيبي، والبعد بالمسلم عن مجالات المنافسة الحضارية والفاعلية الإنسانية. يعزز هذا الرأي أن الفكرة تزداد توهجا حين الضعف ليعفي بها المرء نفسه من مغامرة المجابهة وتفعيل إرادة الإصلاح والتغيير.
في المقابل، يذهب دعاة جماعات دينية تقليدية، كأتباع السلفية والوهابية، إلى اعتبار قضية المهدي المنتظر أصلا من أصول الإيمان، ويرون أن إنكارها يهدد عقيدة المسلم ويحيد به عن الصراط المستقيم، في محض تقليد للغرب وتأثر بإدعاءات المستشرقين.
نبوءة تحرك التاريخ
بين القبول والرفض يقف البعض لينظروا إلى مسألة المهدي المنتظر لا باعتبارها قضية ايمانية تمثل أصلا من أصول العقيدة، وإنما باعتبارها نبوءة تدفع وتحرك مسار التاريخ. عند هؤلاء أن قضية المهدي المنتظر، سواء صحت أم كذبت، هي جزء من المعتقد الشعبي، وإن بعض الحنكة في معالجة القضية يمكن أن يحيلها من مركز للخلاف بين جماعات المؤمنين إلى قوة دافعة تحرك مسار التاريخ، وتقوي الأمل في انتصار قضايانا العادلة. يستشهد هؤلاء بأن التاريخ الإنساني عبر قرون طويلة استند إلى الاعتقاد في نبوءتين تاريخيتين، هما بالأحرى أكذوبتان تاريخيتان، الأولى الاعتقاد المسيحي بضرورة تطهير الأراضي المقدسة (مدينة الرب) في الشرق الإسلامي تمهيدا لنزول المسيح، وهي التي مثلت دافعا قويا في الحروب الصليبية، أما النبوءة الثانية فهي نبوءة اليهود الزائفة في أرض الميعاد، التي أحياها هرتزل ليحصل اليهود بعدها على وعد بلفور المشؤم، إيذانا بتأسيس وطن لهم في الأراضي الفلسطينية، وطمعا في حلم أكبر بدولة يهودية كبرى من النيل إلى الفرات.
سئل أستاذ جامعي ذات مرة: كيف يمكننا تحاشي الخلاف حول فكرة المهدي المنتظر؟ وجاء رده على السؤال بسؤال آخر، ولماذا الاصرار أن نجعل منها مركزا للخلاف؟ وتابع: أعداؤنا يتشبسون بأكذوبة يستحلون بها أراضي الغير، ونحن لا نتفق على ما يتوافر له بعض مظاهر الصدق للحفاظ على حقوقنا وأراضينا، نجعل من المجدد الذي يأتي على رأس كل مائة عام قضية خلافية، ثم يقع الخلاف بين أنصار كل فريق، فما الذي يمنع أن يتوسم كل منا في نفسه القدرة على التجديد وخدمة قضايا الإسلام؟ لاسيما أن الحديث الشريف لم يحدد عدد من ينهض بهذه المهمة، وإنما قال “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
هذا التناول للفكرة ربما يفتح المجال لطرح أكثر واقعية .. لماذا لا يكون “المهدي” هو كل فرد من أفراد الشعب ينهض لاسترداد حقوقه المسلوبة؟ .. مثل هذا الطرح يتجاوز الخلاف حول شخص المهدي ومصداقيته وأوان ظهوره، ويمنح الشعوب يقينا أن نصرة الله باقية إلى جوارهم ما داموا لم يتخاذلوا في الدفاع عن حقوقهم، فإذا صار الأمر كذلك أصبح كل منا مهدي بلا ريب.
مقال اكثر من رائع … أحسنت يا استاذ بلال