عرضت مسرحيات شكسبير لشخصيات شريرة أيقونية لم يغيبها تاريخ الأدب الانجليزي والعالمي على امتداده. تراوحت هذه الشخصيات بين المغتصبين القتلة، والخونة المتعطشين للسلطة، والخطاة الماكرين. ونستكمل في هذه المادة استعراض أشهر هذه الشخصيات.
جونيريل وريجان هما – كما يصفهما أبوهما، الملك لير – شيطانتان متمركزتان حول ذواتيهما، ومتعطشتان للسلطة والمال. تسبب عدم إخلاصهما لأبيهما وأختهما، كورديليا، في انهيار المُلك وسقوط المَلك في وهدة الجنون.
في المشهد الافتتاحي، يعلن الملك العجوز، لير، عن رغبته في التقاعد ونقل ملكه وثروته إلى بناته، وبدافع الجشع والأنوية لجأت جونيريل وريجان إلى الكلام المنمق للتعبير عن عواطف زائفة تجاه أبيهما لسلب ما وسعهما سلبه من إرثه الهائل.
في الوقت ذاته، رفضت الأخت الصغرى، كورديليا، أن تنساق وراء هذا الصراع من أجل الثروة. لكن الملك سرعان ما أسلم قياده لابنتيه الكبريين اللتين لم تنيا في الوقيعة بينه وبين كورديليا. على إثر ذلك منح الملك ثروته لجونيريل وريجان، بينما أنكر على كورديليا حظها من ملكه وماله.
في الفصل الثالث، تتحول مكائد جونيريل وريجان من مجرد دسائس بغرض الوقيعة إلى ممارسة مباشرة للعنف المفرط؛ حيث تقوم ريجان وزوجها، دوق كورنوول، بتعذيب جلوسستر، أحد أبرز مساعدي الملك لير المقربين، وفقء عينيه، وتركه يهيم في البراري في واحد من أهم مشاهد المسرحية، وأكثرها رعبا على الإطلاق.
لكن الضغينة والحقد في نفسي جونيريل وريجان سرعان ما ينفثان نارهما في علاقتهما الخاصة، فينقلب السحر على الساحر ويتحول الصراع الدامي إلى صراع داخلي ينتهي بقيام جونيريل بسجن أختها ريجان، بدافع الغيرة من علاقة الأخيرة بإدموند (شخصية شريرة مهمة في المسرحية) ثم قتل نفسها بعد ذلك.
تعد ليدي ماكبث بحق إحدى أبرز شخصيات شكسبير النسائية، وربما أبرزها على الإطلاق؛ يدفعها طموحها العنيد وشهوتها الجامحة للسلطة إلى استخدام مفاتنها الجنسية للهيمنة على زوجها ماكبث، ويمكن القول بأن تطلعات ماكبث إلى الجلوس على عرش أسكتلندا لم تكن عن رغبة شخصية حقيقية بقدر ما كانت إذعانا لطموحات زوجته. وبينما كان ماكبث يعيش حالة اضطراب عميق جراء إقدامه على قتل كل من يقف في طريقه إلى العرش، كانت زوجته أكثر رسوخا تجاه قناعاتها غير الأخلاقية، وراحت تقنع زوجها بأن عليه أن “يبدو في الظاهر كالزهرة البريئة، لكن أن يكون في الحقيقة كالأفعى التي تختبئ تحتها”.
تُسوغ ليدي ماكبث لزوجها ارتكاب جرائمه بتصويرها له على أنها منطقية وشجاعة، في بعض الأحيان تتحول استراتيجية ’التزيين‘ التي تتبناها ليدي ماكبث إلى استراتيجية القوة السافرة، ففي قلب واضح للأدوار الجندرية، تصف ليدي ماكبث مخاوف زوجها عندما يعرب لها عن تردده بأنها ضعف أنثوي وتسأله بسخرية: “أرجل أنت؟”.
وعلى غرار كثير من الشخصيات الشريرة في تراجيديات شكسبير، تتآكل ليدي ماكبث ذاتيا تحت مقصلة ضميرها اللا أخلاقي، وتصاب بالجنون جراء أفعالها الخبيثة؛ فتعاني من نوبات مشي أثناء النوم، تهيم خلالها في القلعة مفزوعة من مشهد يديها الملطختين بالدماء، الذي يلازم مخيلتها، متسائلة: “من كان يتخيل أن العجوز تجري في عروقه كل هذه الدماء؟”، لتبقى هذه الصورة الذهنية الأخيرة الشاخصة في مخيلاتنا لليدي ماكبث قبل أن تقدم على الانتحار في المشهد الأخير.
يبوح الفصل الأول من مسرحية هاملت Hamlet بأن “شيئا ما عفن تفوح رائحته في الدنمارك”. وسرعان ما يتكشف لنا أن هذا “الشيء” مرتبط بالملك كلوديوس، عم هاملت، الذي قتل أخيه، بعد أن وضع له السم في أذنيه أثناء نومه، ليستولي على عرشه وزوجته. وعلى غرار ماكبث وريتشارد الثالث، يتعرض كلوديوس لمطاردة شبح ضحيته. وتظهر روح الملك المقتول لهاملت لطلب الانتقام وفضح كلوديوس.
نجح شكسبير من خلال شخصية كلوديوس في صياغة شرير مثير للفضول، على عكس إياجو وتامورا وريتشارد الثالث، لم يكن كلوديوس يجد نشوة في ارتكاب جرائمه، بل كثيرا ما تعرض لنوبات تأنيب الضمير. وفي الفصل الثالث، يعترف كلوديوس بجرائمه في الصلاة: “رائحة جريمتي عفنة، إنها تبلغ عنان السماء”.
في نهاية المطاف يسقط كلوديوس ضحية لطبيعته المتآمرة عندما تشرب زوجته جيرترود (التي يؤكد كثير من النقاد أن كلوديوس أحبها بصدق)، كأسا مسمومة كان قد أعدها لهاملت. بعد ذلك يلقى كلوديوس نهايته الدموية في مشهد شكسبيري تقليدي عندما يطعنه هاملت بسيف مسموم، قبل أن يجبره على تجرع الكأس المسمومة.
يرى كثير من النقاد أن إياجو هو الشخصية الأكثر شرا بطبيعتها ضمن قائمة شخصيات شكسبير الشريرة؛ حيث راح يخطط بلا هوادة طوال أحداث تراجيديا Othello من أجل القضاء على عطيل، حتى وجه حقده الدفين ومؤمراته الدنيئة الأحداث إلى نهايتها المأساوية.
لكن ما يبدو لافتا تجاه شخصية إياجو هو غموض دوافعه من وراء مكائده الخبيثة، حتى إنه ليبدو أن مجرد تدمير عطيل كان هدفا في ذاته، دون أن يرمي من ورائه إلى تحقيق أي مصالح. اختار إياجو حيلة خبيثة لإدراك غايته تقوم على غرس بذور الغيرة في عقل عطيل، وأن “يسكب الوساوس في أذنيه” تجاه زوجته، ديسديمونا.
أودت هذه الوساوس بعطيل في نهاية المطاف إلى قتل زوجته، ثم قتل نفسه. وبرغم افتضاح مؤامرات إياجو، وإعدامه، إلا أن هذا لم يحدث إلا بعد فوات الآوان.
ربما قدم شكسبير بعض المبررات لخبث نوايا إياجو، مثل تجاوز عطيل له في الحصول على ترقيات عسكرية، وربما خيانته له مع زوجته، إلا أن هذه المبررات – على أهميتها – لا تصمد أمام المؤامرات التي حاكها إياجو طوال الوقت ضد عطيل. والحقيقة أن إياجو كان يجد نشوة غامرة لمجرد نفث أحقاده حتى تحول تدمير عطيل إلى هدف في ذاته، وهو ما يجعله الشرير الأبرز ضمن الشخصيات الشريرة البارزة والتاريخية في الدراما الشكسبيرية.
*هذه المادة مترجمة
مقال رائع جدااااااااااا
بالتوفيق يارب