فن

فيلم «القاضية».. المرأة فى مواجهة بيئة معاندة

لم يكن طريقها إلى القضاء الشرعي معبدا بالزهور، وإنما كان – كطبيعة ما يكابده الرواد، وبالأخص الرائدات، في منطقة الشرق الأوسط – محفوفا بالصعاب. إلا أن “خلود الفقيه” نجحت في اجتياز هذا الطريق لتصبح أول امرأة تتقلد منصب القضاء الشرعي في الشرق الأوسط.

يلقي الفيلم الوثائقي The Judge (القاضية)، الذي أخرجتة إريكا كوهين، الضوء على نشاطات الفقيه وجهودها في خدمة قضايا المرأة على مدار تسع سنوات من عملها في سرايا المحاكم الشرعية، التي تختص بالنظر في قضايا الطلاق وحضانة الأطفال والعنف المنزلي وغيرها من القضايا التي تصب مباشرة في صميم قضية حقوق المرأة. يعرج الفيلم بشكل أساسي على ما تتمتع به الفقيه من مثابرة وجلد، إضافة إلى خبراتها الأكاديمية والعملية في مجال القانون، التي أهلتها لتولي هذا المنصب في مجتمع سريع التطور، لكنه يرتكز بقوة إلى التقاليد.

ينطلق الفيلم بسلاسة من القضايا المحلية التي تهم المرأة الفلسطينية إلى قضايا المرأة في المنطقة العربية والعالم بوجه عام، بطريقة مبتكرة تعتمد بالأساس على سبر أغوار كفاح الفقيه حتى تبوأت هذه المكانة، فيما يعتبره الفيلم إرهاصات ثورة اجتماعية بدأت عام 2009، عندما حاولت الفقيه إقناع الشيخ تيسير التميمي، قاضي القضاة، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي والمحكمة العليا، بأحقيتها في تولي هذا المنصب، وهو ما اعتبره الفيلم بمثابة “إلقاء حجر في الماء الراكد”.

يخبر الشيخ تيسير التميمي مخرجة الفيلم، إريكا كوهين، بأن أول ما جال بخاطره عندما تقدمت إليه الفقيه بهذا الطلب أنها “تمزح”، لكن الفقيه دعمت طلبها بنصوص وأدلة شرعية تؤكد عدم وجود ما يمنع المرأة من العمل قاضيا شرعيا. “كان هذا انقلابا في ذاته”؛ حيث يوضح الفيلم أن عمل الفقيه في هذا المجال لا يقتصر فقط على الفصل في القضايا والمنازعات الأسرية، وإنما يتجاوز ذلك إلى مواجهة التأويلات المغلوطة للنصوص الدينية التي تُستخدم بصورة روتينية لتكريس الهيمنة الذكورية، التي تبلغ في بعض الأحيان حد القمع، وربما القتل، بحق المرأة، وذلك تحت وطأة “قراءات ظلامية وغير واعية للأوامر والتعاليم القرآنية”.

يُجري الفيلم لقاءات مع حسام الدين أفانا، الباحث في العلوم الشرعية، ليقدم من خلاله نموذجا للفكر الأصولي الذي يرى عدم أهلية المرأة لتقلد منصب القضاء الشرعي، بحجة تعرضها للحمل والولادة والدورة الشهرية، ما يعوقها عن القيام بدورها على الوجه الأكمل، حسب تأويلهم.

يضع الفيلم هذا النهج التقليدي في التأويل مقابل الفكر التنويري الذي تعكسه الفقيه وأسمهان وهيدي (قاضية أخرى تم تعيينها في عام 2009 مع خلود الفقيه) بغرض تصحيح الصورة النمطية العالقة بالعقل الغربي عن المحاكم الشرعية. كما يهدف الفيلم من خلال هذه المقابلة بين الفكرين “الرجعي” و”التنويري” إلى نفي أي صلة بين مؤسسة المحاكم الشرعية والتطرف، لافتا إلى أن هذه المحاكم تنتشر بطول العالم الإسلامي وعرضه – بدءا من ماليزيا شرقا إلى المغرب غربا – للدفاع عن حقوق المرأة.

ويجري الفيلم عددا من اللقاءات مع العديد من الرجال والنساء في شوارع فلسطين ليكشف عن آراء متنوعة تتعلق بمكانة المرأة في الفقه المعاصر، وعن الصراع المحتدم بين الآصالة والمعاصرة.

ترسم مخرجة الفيلم، الحائزة على جائزة “إيمي” عن فيلمهاIn Football We Trust، صورة كاملة للمجتمع الفلسطيني من خلال مجموعة من اللقطات المصورة، والمقابلات الواقعية التي تعبر بقوة عن حالة توافق عام على المحافظة على الهوية.

وبعيدا عن المحاكم، تقدم كوهين صورة حية للحياة الهادئة في القطاعات الفلسطينية المختلفة، التي قلما تعرض لها وسائل الإعلام في خضم الاهتمام بالصراعات السياسية. في هذا الإطار، يعرض الفيلم لقطات مصورة من على متن طائرة للضفة الغربية تبرز ما تذخر به من جمال طبيعي وتناسق بصري في مقابل مشاهد الاضطرابات التي أصبحت مرادفة للحياة اليومية في هذه المنطقة. كما يسلط الفيلم الضوء على ما يزخر به المجتمع الفلسطيني من تعددية دينية وفكرية يحاول من خلالها استجلاء مفهوم “الشريعة”.

يتتبع الفيلم أيضا الحياة الاجتماعية للفقيه، التي تضطلع بتربية أربعة أطفال، ورعاية شئون بيتها وزوجها الذي يعمل بالمحاماة. وخارج جدران المنزل تصور كاميرا الفيلم نقاشات الفقيه مع صديقاتها وجاراتها حول الآثار الاجتماعية والاقتصادية للطلاق، كما تنطلق معها في زياراتها لوالديها اللذين ينتميان إلى الطبقة الوسطى، وتكبدا مشاق تربيتها مع أشقائها الأحد عشر. ويبرز الفيلم أن أغلبهم نجح في إتمام دراساتهم الجامعية؛ حيث كان الأب يؤمن إيمانا راسخا بأهمية التعليم، “لا سيما للبنات”.

تمثل الفقيه بما لديها من مؤهلات أكاديمية وشخصية ثمرة لهذه الجهود، ووجها من وجوه الأمل في مواجهة الفساد والعجز الذي تعاني منه أغلب المؤسسات الفلسطينية. وفي خضم تصويره لمواجهاتها العنيفة  للانتكاسات السياسية التي تحولها إلى “قاض بلا قضايا”، يعمد الفيلم إلى تصوير الصراع من الخارج بدلا من الولوج في أعماقه. ولكن حتى مع الحفاظ على هذه المسافة، يؤكد الفيلم أن تحت هذا الوجه الهادئ والملامح الرصينة، تدور رحى معركة حامية الوطيس من أجل الانتصار للحق والاستنارة.

*هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock