ثقافة

ملاحم «لويس تشا» تمنح الرواية الصينية تأشيرة العالمية

“لويس تشا”، الذي يبلغ من العمر 94 عاما، ويعيش في عزلة فاخرة على القمة الخضراء لجزيرة هونج كونج، هو أكثر الكُتاب مبيعا في العالم في الوقت الراهن. وتحظى أعماله في الدول التي تتحدث الصينية بتداول يعادل كتابي “هاري بوتر” و”حروب النجوم” مجتمعين. كانت بداية تشا الأدبية في خمسينيات القرن الماضي عندما نشر ملاحم Wuxia. منذ ذلك الحين دفعت رواياته الأطفال ووالديهم إلى السهر إلى ما بعد مواعيد النوم المعتادة، ليقرأوا ملاحم الفرسان الذين يمارسون فنونا قتالية، ويسافرون عبر عوالم سرية، بعيدا عن أعين الحكومة الإمبريالية.

وبرغم مقاومة كتابات تشا للترجمة إلى اللغات الغربية، إلا أنها تحولت إلى أعمال سينمائية وتليفزيونية، وقصص مصورة، وألعاب فيديو ناجحة وواسعة الانتشار. لكن فبراير الماضي شهد حدثا ثقافيا غير مسبوق؛ حيث قامت شركة “كويركوس” للنشر، بانجلترا، بنشر الجزء الأول من ثلاثية تشا الشهيرة Legends of the Condor Heroes (أساطير أبطال الكوندور) مترجما إلى اللغة الإنجليزية، وتجري مفاوضات حاليا لنشر طبعة أمريكية من الكتاب ذاته.

تبدأ أحداث هذه الثلاثية في عام 1205، قبيل الغزو المنغولي للصين، وتمتد عبر ما يزيد على 150 عاما، وتتألف من أكثر من مليونين وستين ألفا من الرموز الصينية، أي ما يعادل مليون ونصف كلمة إنجليزية (زيادة على ثلاثة أضعاف حجم سلسلة Lord of the Rings (سيد الخواتم). وتقدم هذه الترجمة فرصة غير مسبوقة لقراء الإنجليزية لسبر أغوار عالم أحد أهم الروائيين، الذي لا يزال عصيا على الفهم.

يبرز “تشا” عبر روايته العديد من القضايا المرتبطة بالثقافة الصينية، على سبيل المثال، يقدم “جو جينغ”، بطل “الكوندور”، نموذجا لشخص بسيط يصنع منه القدر بطلا خارقا عندما يضعه في طريق راهب طاوي رحال يعرض عليه دروسا في التأملات الباطنية لتطوير أدائه القتالي، شريطة أن يبقى الأمر سرا لا يعلم به مدربوه الآخرون، وهو ما يعكس قضية صراع الولاءات، التي تمثل أطروحة كلاسيكية في الأدب الصيني.

في السياق ذاته، في مرحلة لاحقة من الرواية، يعلم “جينغ”، الابن بالتبني لأحد النبلاء الذين ينتمون إلى قبيلة بدوية، أن أصوله العرقية تعود إلى شعب “هان الصيني”، ما يضع القارئ أمام صراعات تاريخية امتدت عبر آلاف السنين بين الصينيين وبدو الشمال، ويجعله يدرك حجم التوتر الناشب بين طاعة الوالدين والوطنية في الثقافة الصينية.

تلعب الأيديولوجيا السياسية دورا محوريا في حياة تشا، الذي عمد في كتاباته إلى تمثل الماضي باعتباره مرآة للحاضر. ولد تشا في عام 1924 من أسرة تمتلك تاريخا في خدمة العرش، وفي عام 1727تعرض أحد أجداده للذبح ووضع رأسه على رمح وفقا لتعليمات إمبراطورية، وماتت أمه أثناء نزوح أسرته فرارا من الغزو الياباني إبان الحرب العالمية الثانية. وفي أعقاب الثورة الشيوعية تم اعتقال تشا في عام 1949، وبعد الإفراج عنه ارتحل للعيش في هونج كونج، التي كانت آنذاك إحدى مستعمرات التاج البريطاني.

في عام 1959، أسس تشا صحيفة Ming Pao Daily News، التي كرًسها للهجوم على الشيوعية الماوية، ما اضطره للهرب إلى سنغافورة عام 1967 بعد أن تلقى تهديدات بالقتل من خلايا شيوعية سرية في هونج كونج. بعد عودته عام 1981، تم الاحتفاء به كمناضل سياسي غامر بحياته من أجل قضية بلاده، وتلقى دعوة من “دينج شياو بينج”، الخليفة البرجماتي للزعيم ماو تسي تونغ، لزيارة بكين.

ومع اقتراب إنهاء الاستعمار البريطاني لهونج كونج، تم اختيار تشا في لجنة سياسية مرموقة لتنفيذ وعود بكين بتحقيق الاستقلال السياسي لهونج كونج. في هذه الأثناء قام “دينج” برفع الحظر الذي فرضه الحزب الشيوعي على سلسلة روايات Wuxia “”المنحلة” و”الإقطاعية”، ما أدى إلى أقبال جماهيري غير مسبوق على قراءتها. كان توقيت رفع الحظر رائعا، ففي أعقاب الأعمال التخريبية التي قام بها الماويون، نشطت الحركات القومية التي دعت الصينيين للعودة إلى الجذور، وأبرزت الثقافات المحلية وثقافات الأقليات، وفي هذا السياق، قدمت روايات تشا متعة سردية تغوص بالصينيين في أعماق التاريخ.

إضافة إلى التاريخ، تنطوي رواية Wuxia على ترميز سياسي فذ؛ حيث تعرض لفظائع الشيوعية الماوية عبر شخصية معلم الكونغ فو ’المخنث‘ وأتباعه الذي يمارسون نحوه طقوسا تعبدية طائفية.

في لقاء مع نيك فريش، الباحث في الدراسات الأسيوية، في عام 2014، يؤكد تشا أن الكثير من رواياته التي كتبها مؤخرا كانت ترمز إلى أحداث الثورة الثقافية. كما تصور ثلاثية “الكوندورز”، التي كُتبت في نهاية خمسينيات القرن الماضي، صدمة الاجتياح الشيوعي عبر احداث اجتياح بدو الشمال قبل مئات الأعوام.

وتواجه شخصيات القصة التحدي ذاته الذي واجهه جيل تشاو؛ حيث كان عليهم أن يقرروا الانضمام إلى النظام الشمالي الجديد، أو الهرب إلى الجنوب كلاجئين وطنيين “يعانون عذابات البعد عن  الأنهار والجبال في أرض الأجداد”. وبرغم أن هذه الثلاثية تقع ضمن أعمال الكونغ فو الخيالية، إلا أنها تبرز الاستعارة الصينية المركزية عن كتابة التاريخ؛ فالمرآة “صرح الماضي الذي نحدق فيه بحثا عن إرهاصات الحاضر”.

هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock