ماذا لو كان البشر جميعهم جنس واحد قابل للتحول إلى الذكورة الكاملة أو الأنوثة الكاملة مرة كل شهر من خلال دورة فسيولوجية تشبه الدورة الشهرية التي تحدث للنساء على كوكب الأرض؟ .. وكيف يمكن أن تكون الحياة في مجتمع ليس فيه إزدواجية الجنسين (ذكر وأنثى)؟
تصحبنا إلى هذا العالم أحادي الجنس كاتبة الخيال العلمي الأمريكية، أورسولا لي جوين، التي رحلت عن عالمنا – وعن عوالمها – مطلع هذا العام، بعد أن اقتحمت مجال فانتازيا الخيال العلمي كأول امرأة تلج هذا المضمار، الذي كان قبلها حكرا على الرجال على مدى سنوات عديدة، لتثريه بمجموعة من أبرز كلاسيكياته.
عبر رحلة “جينلي أي” – الرجل الطبيعي المبتعث من قبل اتحاد الكواكب الكوني إلى كوكب “جيثين” لإقناع سكانه بالانضمام إلى الاتحاد – تكشف لنا “لي جوين”، في روايتها الفذةThe Left Hand of Darkness (اليد اليسرى للظلام)، خبايا عالم لا يعرف الثنائية الجنسية، يكتنفه كوكب نائي تغطيه الثلوج.
وفي الوقت الذي يُفصح فيه هذا العالم عن مكنوناته، يكتشف سكان “جيثين” – لأول مرة – وجود حياة خارج كوكبهم، يعيشها بشر يتسمون بالذكورة فقط، أو الأنوثة فقط. وعبر هذه المضاهاة بين العالمين تطرق جوين بقوة العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية الشائكة، مثل السلام العالمي وحقوق المرأة، وتسبر أغوار تيمات إنسانية لطالما أرقت الإنسان، مثل الهوية، والاغتراب.
في رحلته إلى كوكب الجنس المحايد، يحمل “آي” كل انحيازات المجتمع الجندري – أو بالأحرى المجتمع الذكوري – لا سيما عندما ينظر إلى الجيثينيين باعتبارهم “رجالا مخنثين ومثيرين للاشمئزاز”. فالجيثينيون الذين لم يعرفوا الحروب على مدى تاريخهم “يشبهون الحيوانات، أو يشبهون النساء … إنهم لا يسلكون مسالك الرجال”. كما أن مجتمعهم اللا ذكوري واللا أنثوي “لا يتمتع أفراده بالحرية التي يتمتع بها الذكور في المجتمعات الأخرى”.
إضافة إلى ذلك، لا يعزو “آي” حالة السلام الدائم التي يعيشها سكان هذا الكوكب إلى “طبيعتهم الفسيولوجية التي تجعلهم جميعا قابلين لأن يكونوا حوامل وأمهات”، وإنما إلى العصر الجليدي الذي استبد بهم، وفرض عليهم أن “يستهلكوا روحهم القتالية في مواجهة لدادته”.
تمثل أيضا قضايا المهجر والاغتراب بُعدا مهما في هذه الرواية. فالعزلة بين ركام الثلوج تعكس فضاء ذهنيا تطلق عليه جوين “قلب العاصفة الثلجية”. في هذا السياق، تقدم شخصية “إيسترافين” دور رجل السياسة الذي يعاني النفي خارج الوطن في هذه التضاريس الموحشة. كما يعيش “آي” حالة من حالات المنفى المادي على هذا الكوكب النائي على مدى فصلي شتاء قارسين، إلى جانب المنفى العقلي الذي تمثل في منهجية تفكيره المتباينة عن كل من حوله مما وضعه في حالة عزلة ذهنية سحيقة.
أما الجزء الأغرب من الرواية فهو ذلك الجزء الذي يعرض لرحلة التيه الشاقة التي قام بها كل من “إيسترافين” و”آي” بين قفور القطب الشمالي، على مدى ثلاثة أشهر، من أجل العودة إلى وطن “إيسترافين”، والاتصال بسفينة الفضاء التي تقل “آي”. ففي قلب هذا العراء الموحش، حيث لا يملك “إيسترافين” و”آي” سوى زلاجة وخيمة، يشعر الرفيقان أنهما “متساويان أخيرا.. متساويان، ومتغربان، ووحيدان”. ثم تأتي نجاتهما من هذه الأجواء بمثابة معجزة، وعملا باهرا من أعمال العبقرية والتخطيط والإرادة البشرية.
يستلهم هذا الجزء من الرواية رحلة الوحش في رواية ماري شيلي Frankenstein “فرانكنشتاين” على الجليد، كما يجد أصداء في العديد من الكتابات المهمة، مثل The Worst Journey in the World (أسوأ رحلة في العالم)، وTouching the Void(لمس الفراغ).
في هذا الخواء الموحش، حيث يفوق عويل الرياح أي صراخ، وحيث يضيع الإحساس بالاتجاهات وسط زخم اللون الأبيض، وحيث تفنى كل أشكال الحياة، يعيش المغتربان حالة ارتباط وترابط تتجاوز الزمان لتشكل مركزا لنوع آخر من الحياة.
لكن لي جوين لا تحاول تضخيم هذه الحالة لتظل ثيمات المجتمع والبيئة هي المهيمنة. فوفقا لآي: “لا أحاول أن أقول إنني كنت سعيدا أثناء تلك الأسابيع … لم أكن سعيدا بالتأكيد؛ فالسعادة ترتبط بالعقل، والعقل فقط هو من يكتسبها؛ أما ما حصلت عليه فهو شيء لا يمكن لأحد أن يكتسبه، أو أن يحافظ عليه، أو حتى يدركه في وقته؛ إنها حالة مؤقتة من الإشباع”.
ورغم عدم قدرة الرواية على تجاوز استخدام ضمائر المذكر للإشارة إلى الجيثينيين المحايدين جنسيا، إلا أن هذه الضمائر لم تُستخدم كإشارة إلى النوع، أو محدِد له. لقد كانت لي جوين أعمق من ذلك لأنها كانت معنية بالأساس بطرح الإسئلة أكثر من تقديم الإجابات، وكانت على وعي تام بما أسمته على لسان شخصية الحكيم المتصوف على كوكب جيثين “عبثية معرفة الإجابة على السؤال الخاطئ”.
*هذه المادة مترجمة من عدة مصادر