منوعات

أحبك حبين .. حب الحداثة وما بعدها

صُدم نيتشه عندما أخبرته الفتاة التي أحبها وأراد الارتباط بها أنها منجذبة لصديقه بول راي، وإن كانت لا تفضل غير العلاقات الحرة. لم تمنع الصدمة الأب المؤسس لعالم ما بعد الحداثة أن يذهب إلى صديقه بول ويطلب منه أن يشاركه الفتاة “لو سالومي” فيوافق الأخير.

كان اهتمام نيتشه منصبا على أن يحصل على فتاته، بغض النظر عن أي قيمة قد يحملها الحب التقليدي، وهو ما ميز بعد ذلك الحب ما بعد الحداثي أو الحب السائل، الذي أصل له زيجمونت باومان.

كل القيم الموصولة بالحب في عصر الحداثة وما قبلها لم تشأ ما بعد الحداثة استبقائه، ميلها إلى الخفة تعارض مع الثقل الذي تحمله قيم مثل التملك والعطاء والرعاية والمسئولية والمعرفة والارتباط الأبدي..، لتحابي ما بعد قيمة الاستهلاك، وتعامل الحب مثل أي سلعة  تتطلب الاستهلاك الفوري، وقد يقتصر استعمالها على المرة الواحدة.

وعدت الحداثة العالم بالخير والسعادة والرفاه، وحفزت الإنسان أنه إن بذل ما  وسعه من جهد فسوف يتمتع بهذه الحياة، وتماهيا مع هذه الرؤية ذات البعد القيمي نظّر عدد من مفكري الحداثة المهتمين بالعلاقات الإنسانية ـ في مقدمتهم عالم النفس الشهير إيريك فروم ـ للحب على أساس كونه فنا لا مجرد مشاعر ذاتية، وهو يستلزم أن يُعنى الفرد بواجبات معينة عليه أن ينجزها قبل أن يتقن هذا الفن، منها أن يهدأ من نرجسيته ويخفف من تمركزه حول ذاته، وأن يكون ملتزما بالإيمان العقلاني الذي يتميز بكونه مغروسا في كل نشاط عقلي وعاطفي مثمر، ويستعذب الإنسان في سبيله كل عذاب، ليؤشر ضعفه على ضعف الحب. والحب وفق هذه الرؤية هو الإجابة المقنعة والوحيدة لمشكلة الوجود الإنساني.

إذا بحثت عن هذا كله في الحب ما بعد الحداثي أو الحب السائل فلن تجد منه شيئا، إذ لست مطالبا بأن تتخلص من نرجسيتك، على العكس، الحب السائل يدعم النرجسية وينمي وجودها، ليؤسس نوعا من العلاقات يستهدف فيها الفرد المتعة الصافية المبرأة من أية جوانب قد تحمله عبئا أو مسئولية ما، حيث “توضع العلاقة على الكتف مثل عباءة خفيفة” حتى يمكن نزعها في أية لحظة، لهذا لا مجال هنا للحديث، كما في الحب الرومانتيكي، عن “شركاء الحياة” إنما عن “الشبكة”، ويشير المصطلح إلى مصفوفة تتضمن الوصل والفصل في آن، فهما “مشروعان على حد سواء”، بخلاف ما في الشراكة، التي تؤكد على معنى الارتباط الدائم وتستبعد الفصل أو فك الارتباط، ليوصم قطع العلاقة عبرها بالخيانة، أما في الشبكة فهو متاح في أي وقت شاء الطرفان، دون أي شعور بالذنب أو إدانة أخلاقية.

 وينبه باومان أن هذا النوع من الحب لا يقوده، كما قد يتصور البعض، الرغبة بل الأمنية، فالرغبة تستلزم وقتا لغرزها وتغذيتها ورعايتها، وهذا يتعارض مع منطق الاستهلاك المدفوع بـ”الإشباع الفوري”، الذي يتوافق أكثر مع الأمنيات لطبيعتها اللحظية، فـ”عندما تقود الأمنية علاقة الحب فإنها تتبع نموذج التسوق، ولا تتطلب (عند الاستهلاك) سوى مهارات مستهلك عادي ذي خبرة متواضعة، فعلاقة الحب، مثل السلع الاستهلاكية الأخرى، تتطلب الاستهلاك الفوري”، وإذا ما ارتأى الفرد أن السلعة التي حصل عليها معيبة أو غير مرضية، كان من حقه استبدالها بأخرى أكثر إرضاءً، وحتى إذا أرضته فمن غير المتوقع أن يدوم هذا الشعور طويلا.

هذا النوع من الحب يدخل ضمن ما يسمى بـ”علاقات الجيب العلوي”، أما عن التسمية فتشير إلى سهولة إخراج العلاقة متى أراد الفرد وإرجاعها إلى الجيب أو التخلص منها في أي وقت شاء (يستدعي هذا الشكل للذاكرة نموذج دون جوان)، ويضع باومان شرطين لها حتى لا تتطور العلاقة إلى ما لا يحمد عقباه:

الأول: على الفرد أن يعي أنه لا شيء اسمه الحب من النظرة الأولى، ولا مجال لنسيان المصلحة المرجوة من العلاقة: إشباع حاجة عابرة، والتنبه لهذا الشرط يمنع الفرد من الانجراف وراء مشاعر قد تأخذه إلى موطن آخر غير هدفه أو مصلحته المؤقتة التي تتطلب عقلا منتبها لا قلبا عطوفا أو ولهانا.

الثاني: على الفرد ألا يدع العلاقة تبتعد عن مراقبته الثاقبة، ولا يسمح لها باكتساب حقوق قد تدفعها لاتخاذ مسار آخر،  ويستلزم ضبطها رصد أقل التغيرات، فإذا لاحظ الفرد شيئا يتعارض وطبيعة العلاقة “المصلحة” فعليه أن يعلم أن الوقت حان لإنهائها، والنصيحة الأخيرة له أن يستبقي جيبه العلوي خاليا استعدادا لعلاقة جديدة.

الغرض من هذه التوجيهات ألا يقع الفرد في أسر الحب الرومانتيكي، ومع كونها قد تحرمه من أن يعيش قوته وقدرته، حيويته الكاملة وإمكانياته القصوى التي يبعثها العطاء في الحب، كما يصور فروم، لكنها في الوقت ذاته تعفيه من تكاليف وأعباء يثقل كاهله بها الحب الرومانتيكي.

المقابلة بين الحبين هي مقابلة بين عالمين لكل منهما مفرداته وأفكاره، وإذا كان الحب الرومانتيكي، كما يذهب إيريك فروم، فن يستلزم معرفة ومهارات على المحب أن يسعى لاكتسابها كي يتقنه، فإن الحب ما بعد الحداثي أو السائل، كما يؤكد زيجمونت باومان، فن هو الآخر، يتطلب كذلك مهارات لا تتوافر لدى أغلب الناس ولا يولد بها غير ندرة نادرة. الفارق أن وعد الحب الرومانتيكي ممتد إلى الجميع، أما السائل فهو مخصوص لفئة بعينها لديها موهبته، فليس كل أحد لديه الفرصة أن يحب الحبين.

Mohamed.altanawy1@gmail.com

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلا الحبين له منتسبيه ولكن مع التقدم في السن قد يرغم الحداثيين ان يكونو رومانتيكين لان الامر سيكون عبثي اذا استمروا في هذه السن المتأخره على ماهم فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock