فن

رياض السنباطي في رقائقه الصوفية

تهب موسيقى رياض السنباطي السامعين كل معاني الطهر والسمو، وتحلق بهم في فراديس التصوف بعد أن تطير بهم على أجنحة الطرب الأصيل. ليس ذلك بمستغرب، فمن بيئة الإنشاد الديني جاء، وفيها تكون، وعلى دربها سار، فأصبح سيد ملحني القصيدة الفصحى، ورائد تنغيم النصوص الدينية في مصر وبلاد العرب، لا سيما بعد أن وجد ضالته في صوت أم كلثوم العبقري، بمساحاته الواسعة، وطاقاته الخارقة، التي فتحت أمامه الطريق ليترجم أفكاره إلى نغم رائق، دون قلق من تقاصر الصوت عن الأداء المنشود.

السنباطبي في منزله يعزف على عوده

 

سلوا قلبي، ولد الهدى، نهج البردة، رباعيات الخيام، إلى عرفات الله، حديث الروح، القلب يعشق كل جميل.. صروح خالدة أعلاها السنباطي في عالم الغناء الديني والفلسفي، وكلها مثلت علامات مهمة في مسيرته الفنية، بل وفي مسيرة أم كلثوم.

في قصيدة المولد النبوي لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي اشتهرت بعد غناء أم كلثوم لها باسم “سلوا قلبي” لا ينسى التأريخ الفني ذلك الدوي الجبار، للبيت الذي جعله السنباطي ملحمة وطنية: وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، كانت الجماهير تتقافز على كراسيها، ليس فقط بسبب السياق السياسي، و”مطالب” مصر من بريطانيا، ولكن بسبب هذا اللحن الفخم المستعلي، مع أداء أم كلثوم المبهر.. في شهر يونيو من عام 2011 نشرت صحيفة الجارديان البريطانية، قائمة وضعها نقاد غربيون لأهم خمسين حدثًا في تاريخ الموسيقى العالمية، وجاء في المرتبة العاشرة غناء أم كلثوم لسلوا قلبي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

قصيدة سلوا قلبي لأم كلثوم

أما “ولد الهدى” فكانت إحدى الدلائل على قدرة السنباطي الفذة في التعامل مع الألفاظ الصعبة والجمل الثقيلة، إذ لم يكن يخطر ببال أحد، تلحين أبيات تقول: والعرش يزهو والحظيرة تزدهي.. والمنتهى والسدرة العصماء، وأن يكون هذا التلحين من مقام الراست ذي الطبيعة الطربية، وكما تجلت قدرة السنباطي في الأجزاء الموقعة، تجلت أيضًا في المقطع المرسل، (أي الخالي من الإيقاع) مع قول شوقي: يا من له عز الشفاعة وحده.. وهو المنزه ما له شفعاء.

ولد الهدى.. قدرة فائقة على تلحين أصعب النصوص

وكانت قصيدة نهج البردة ميدانا لاستعراض قدرات السنباطي الموسيقية، مع قدرات أم كلثوم الصوتية، وشارك السنباطي سيدة الغناء في اختيار الأبيات الثلاثين من بين مئة وتسعين بيتًا هي أصل القصيدة، كما قرر أن ينطلق اللحن من مقام الهزام، الذي يعطي أجواءً شرقية صوفية، ووضع مقدمة تذكر بموالد الأولياء، وحلقات الذكر والإنشاد.

وسار السنباطي في اللحن –كعادته- بطريقة تصاعدية، شأن قراء القرآن الكريم، وأوصل صوت أم كلثوم إلى الذروة العليا عند أداء لفظ الجلالة في بيت: محمد صفوة الباري ورحمته.. وبغية الله من خلق ومن نسم. ومن المؤكد أن السنباطي حين وضع هذا اللحن وضعه لحنجرة سيدة الطرب، إذ من الصعب جدا على غيرها أن يؤديه بذلك الأداء المبهر المعجز.

أم كلثوم في بيروت تشدو بلحن نهج البردة

وجاءت رباعيات الخيام مفاجأة كبرى لجماهير أم كلثوم، أظهر فيها السنباطي قدرات في التفكير الموسيقي، فإذا كنا بصدد نص فلسفي، فإننا بحاجة أيضا إلى فيلسوف موسيقي، ولم يكن لهذه المهمة إلا ذلك العملاق الذي وضع للحن مقدمة من مقام الراست ظلت تتكرر جملتها الرئيسة خلال عدة مقاطع من الرباعيات، مما أوجد حالة من الارتباط وقوة البناء، رغم التغير الكبير في معاني الرباعيات التي بدأت بالدعوة إلى اغتنام اللذات، وإطفاء لظى القلب، ونيل الحظ قبل فوت الشباب، وانتهت بالإنابة والضراعة وعودة المخلوق إلى الخالق: إن تفصل القطرة من بحرها.. ففي مداه منتهى أمرها.. تقاربت يا رب ما بيننا .. مسافة البعد على قدرها.

رباعيات الخيام

عام 1951 قدمت أم كلثوم قصيدة إلى عرفات الله، بعد أن لحنها السنباطي من مقام الهزام، وتميز الحفل الأول لهذه القصيدة الذي أقيم بدار سينما راديو بوجود مجموعة المزاهر أو الدفوف، التي منحته طابعا خاصا، وصور السنباطي بموسيقاه كل معاني الضراعة التي أرادها شوقي بقوله: ويا رب هل تغني عن العبد حجة.. وفي العمر ما فيه من الهفوات.. وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر.. ولم أبغ في جهري ولا خطرات.

وفي عام 1967 اختارت أم كلثوم أبياتا من قصيدة شكوى للشاعر الباكستاني الفيلسوف محمد إقبال، بعد أن ترجمها نثرا محمد حسن الأعظمي، وحولها من النثر إلى الصيغة الشعرية الشيخ الصاوي شعلان، ووضع السنباطي موسيقاها من مقام راحة الأرواح. كانت عظمة اللحن على قدر عظمة الكلمات: فالنص فلسفي، صعب المأخذ، لا تدرك معانيه بالاستماع السريع، وبعض أبياته يحتاج فهمها إلى دراية بقواعد اللغة، وفنون البلاغة، وقد نهض السنباطي بالمهمة على أكمل وجه. نجح اللحن نجاحا مدويا، ومنحت باكستان أرفع أوسمتها لأم كلثوم.. ولا أظن أن المستمع الواعي ينسى بيت إقبال: وجاوبت المجرة عل طيفا.. سرى بين الكواكب في خفاء.. حيث صور السنباطي بموسيقاه معنى “السريان الخفي بين الكواكب” تصويرًا مدهشًا أخاذًا، وكذلك فعل في كل كلمات القصيدة.

حديث الروح

وإذا كانت الأمثلة الفائتة كلها من الشعر الفصيح، الذي بلغ السنباطي القمة في تلحينه، فلابد من التوقف أمام لحنه الخالد لكلمات بيرم التونسي “القلب يعشق كل جميل” تلك الطقطوقة “العامية” الفريدة، التي أصبحت موسيقاها علامة على موسم الحج وعيد الأضحى، حيث جمع فيها السنباطي بين الفرحة والضراعة ووصف زيارة الحرمين.

بالطبع كان لأم كلثوم النصيب الأكبر من ألحان السنباطي الدينية، لكنه أظهر براعته أيضا في التلحين الديني لغير سيدة الغناء، فجاء لحنه البديع لكلمات حسين السيد، “إلهي ما أعظمك”، التي شدت بها نجاة ليثبت به براعته في تلحين النصوص الدينية بعيدا عن صوت كوكب الغناء، وفي إلباس كل صوت ثوبه المناسب.

نجاة تغني إلهي ما أعظمك

أما آية السنباطي الكبرى في التفوق دون الاعتماد على السيدة، فتبدو جلية واضحة في لحنه الصوفي العظيم الذي غناه بنفسه من كلمات حسين السيد أيضا، “إله الكون”، فقد صور السنباطي بنغمه وأدائه ذلك المعنى الفريد، المتمثل في التوسل إلى الله بالضعف الإنساني أمام الجمال.. إله الكون سامحني أنا حيران.. جلال الخوف يقربني من الغفران.. وهنا، يظهر عود السنباطي، من خلال دقة وتر واحدة عصية رائعة، جعلها السنباطي معراجًا يصعد عليه إلى الدرجات الأعلى من مقام الهزام، ليغرد: وسحر الكون يشاور لي على الحرمان.. وأنا إنسان يا ربي أنا إنسان.

السنباطي يغني إله الكون

ومن المؤكد أن الحالة الصوفية لم تكن تغيب عن السنباطي أبدا، حتى في ألحانه العاطفية، حيث يشعر المستمع فيها بطابع ديني، ربما بسبب النهج الصارم الجاد الذي فرضه رياض على نفسه، ورفضه للاستسهال، أو إرضاء الجمهور بإيقاع لا يخدم النص أو اللحن، وكذلك رفضه التعامل إلا مع الأصوات التي يرى أنها تستحق فكره الموسيقي، وإبداعه النغمي.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري
Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker