هبت رياح ثورة الياسمين على الأراضي التونسية، فاقتلعت عرش زين العابدين بن علي، فإذا بعشرات الآلاف من السلفيين الجهاديين يحتشدون أمام «مسجد الفتح» لينكشف الغطاء عن ما يربو عن نحو 90 ألفا منهم، في دولة طالما وصفت بقلعة العلمانية في العالم العربي.
كان مشهدًا مدهشًا وصادمًا لأولئك الذين ما فتئوا يتسائلون: كيف اخترقت «آفات» التكفير أجواء البلاد الخضراء، التي ظلت حينا من الدهر حصنًا منيعًا ومصدًا صلبًا، حجبت تلك الأفكار من التسلل عبر حدودها، خاصة تلك القادمة من الجزائر، والتي ما يزال المخيال مستحضرًا عشريتها الدموية والسوداء.
تجاوزت الأمور حد التصورات المنطقية، فلم يكن يتوقع أحد أن تشكل تلك الجموع بعد مرور عامين من الثورة التونسية، عصب تنظيم «داعش»، وأن يسيطروا على هياكله الشرعية والأمنية والعسكرية، إلا أن المفارقة أن تلك الجموع مع قوتها وشراستها المفاجأة، ودورها في التصدي بضراوة لخصوم التنظيم، كانت سببا في حالة التشظي التي مني بها ذلك الكيان من الداخل.
لقد حملوا في هجرتهم الاختيارية لما أطلقو عليه «أرض الميعاد» في دابق، حيث يلتقي فسطاطا الحق المتمثل في الإسلاميين، والباطل المتمثل في الصليبيين ومن يعاونهم من العرب، إيمانا عميقا بفكرة طالما كانت سببًا في انشقاق التنظيمات وتشرذمها، «تكفير العاذر بالجهل».
بعيد الثورة، طار إلى تونس شيخ قادم من الجزيرة العربية يدعى، أحمد بن عمر الحازمي، نظم عددا من الدورات الشرعية والمحاضرات السرية لطلبة العلم الشرعي المستجدين، فركز حديثه على مسألة «الحجة الرسالية».
يستند «الحازمي» على أن الدين قد اكتمل، بدليل قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، فلم يعد هناك حجة للناس يدعون فيها أنهم يجهلون فيها العلم بالدين والأحكام، فلو ارتكب شخص أيًا من نواقض الدين، فهو يكفر بلاشك، دون أن يعذر بجهله بهذا الناقض.
إلى الآن ليس هناك جديد، فقد قال بذلك عدد من التنظيمات مثل تنظيم الجهاد في مصر، الذي لم يعذر الحاكم ولا النظام ولا الجيش والشرطة، بالجهل وإن عذر الأعوان، وهم كل العاملين في الجهاز الإداري للدولة باستثناء سيد إمام الشريف، منذ أن كان في أفغانستان.
المستحدث في هذا الشأن هي مسألة متفرعة من ذلك قذف بها «الحازمي» في حجر تلاميذه، وهي أنه لو جاء شخص ما لا يعذر بالجهل، لكنه لم يكفر شخص آخر عذر بالجهل، فإنه يكفر لذلك وهو ما يطلق عليه الكفر باللوازم .. وهو ما يمكن أن يطلق عليه «متوالية التكفير».
تسببت تلك الفكرة في تشظ كبير في التنظيم الموصوف بـــ «الحديدي»، وأهلك بسببها عشرات من القادة والجند. لقد وصل الحد إلى الاقتتال الداخلي، بعد أن وصل «الحازميون» لمرحلة هددوا فيها «البغدادي»، بالتوبة والاستتابة، إن هو لم يكفر «الظواهري» علانية، لأن الأخير لم يكفر من ينطبق عليه وصف التكفير «وفق اعتقادهم»، فإذا كانوا يعتقدون كفر جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يكفرهم «الظواهري»، و«أبو عطية الليبي» وغيرهم من قادة «القاعدة»، فإنهم يكفروا لعدم تكفيرهم لهؤلاء المرتدين.
لم يأت «الحازمي» بكلام من لدنه، لكنه استند في كل ما قال لما أسماه «علماء النجدية» واعتمد كثيرا في محاضراته على كتاب «كشف الشبهات» للإمام “المجدد” الشيخ محمد بن عبدالوهاب «حسب وصفه».
إنه ببلوغ الكتاب عبر الرسول تكون الحجة الرسالية قد أقيمت، فلن يكون على الله تعالى حجة بعد ذلك، فإذا لم يأت أحد بالتوحيد جاهلا أو إذا تلبس بالشرك جاهلا، فإنه لا عذر له البتة، فلا يصح ألا ينزل عليه الحكم والوصف من أجل كونه يجهل حكم المسألة، حتى كان ينطق «لا إله إلا الله» .. لقد قتل هؤلاء فيما بعد المئات من عناصر الفصائل السورية التي كان ينتمي بعضها للقاعدة مثل جبهة النصرة، وهيئة تحرير الشام فيما بعد.
في كتابه «معالم في الطريق» وصف سيد قطب المجتمعات بـــ «الجاهلية» ، دون الدخول في تفاصيل فقهية، إلا أن هناك عدد من الجماعات، اعتبر أن هذا الحكم يستتبعه تكفير تلك المجتمعات على الجملة، بينما رفض عدد آخر تلك الأحكام، باعتبار أن «الجاهليين» معذرون بجهلهم، من هنا نشبت الصراعات حول المسألة، خاصة بعد أن كفرت جماعات مثل «التكفير والهجرة»، «والشوقيون»، بقية الجماعات الأخرى مثل «تنظيم الجهاد»، و«الجماعة الإسلامية»، ليس لأنهم كفار، بل لأنهم لا يكفرون «الكافرين»، ثم نشأت متوالية التكفير «من لم يكفر الكافر فهو كافر، ومن لم يكفر من لا يكفر الكافر فهو كافر .. ألخ » في متوالية تكفيرية لا تنتهي. لم تقصم قضية ظهر جماعات التطرف والإرهاب، وجعلت منهم شيعًا، وأحزابا، وفرقًا، وجماعات، مثل هذه القضية.
إنها «قديمة ومتجددة» عند تلك التنظيمات، وهي مقياس لدرجة التكفير لديها، فمع أن معظم التنظيمات الجهادية، تتفق علي فكرة قتل أهل البغي أو ما يطلقون عليهم المرتديين، والكفار، إلا أنهم اختلفوا في قضية الحكم على عموم الناس هل هم مسلمون في الأصل أو كفار في الأصل؟ أم يتوقف التنظيم على الحكم عليهم فلا يحكم عليهم بالإسلام أو الكفر؟، من هنا نشأت فرقة التوقف والتبين، التي لا تحكم للناس بالإسلام ولا بالكفر، ولكن تتوقف حتي تختبر عقيدته ونيته. ومن هنا نشأت قضية من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر، واعتبارها أصلا من أصول الدين.