تاهت معالم الخريطة السلفية بعدما ولج شيوخها في مستنقعات السياسة، وجاسوا بأقدامهم في أوحالها، عادوا أدراجهم مسالمين مهاجرين من ضوضاء السياسة وعوادمها إلى رحاب المساجد وظلال منابرها، ينامون على سجاجيدها، ويخضبون لحاهم بمسك الحجاز وزعفران اليمن، ويشعلون أبخرتهم ليقرأوا في رقائق ابن القيم، وينهلون من خشونة فقه ابن تيمية. لم تكن العودة في سلام هينة، وإن صمت الشيوخ عن سؤال الماضي القريب، وتكتموا على خسائر التجربة وضياع الإرث القديم.
ما بين أيام يناير وأحداث «رابعة»، كان التيه الأكبر للتيارات السلفية، وعند انتهائه وجدت نفسها مثخنة بالجراح والأوجاع بعد أن تلقفها غول السياسة، وأدخلها سراديبه ودواماته، فكانت كقطار بضائع كلما مر بمطب أسقط جزءا من بضائعه حتى إذا وصل لمحطته الأخيرة لم يجد مما حمل سوى القليل.
وعاد شبح المحنة يتراقص أمام أعين قادة السلفية ومشايخهم من جديد. ولكن عند اقترابنا من الخارطة السلفية المنكوبة بدا تيار سلفي وكأنه يتمدد على أنقاض السلفيات المنكسرة، خرج وحده غانما يلتقط الغنائم من بين ركام الفلول الشاردة وجرحى التجربة والمصدومين والمشدوهين من تحولات شيوخ الحركة.
لم يتزحزح ذاك التيار عن منهجه وخطابه قيد أنملة، فكان ولا يزال عاضًا على ثوابته بالنواجذ، فالثورات كانت وما زالت محرمة، والاحتجاجات بدعية والسمع والطاعة للحاكم و(إن جلد ظهرك) واجبة. فالحاكم هو محور الجماعة المسلمة، بل إن الجماعة هي السلطان، ومعارضته وتشكيل جماعات وتنظيمات وفرق داخل إطار الدولة يمثل خروجًا مباشرًا عليه، ومروقًا عن حمى أهل السنة والجماعة.
يحتل مصطلحا «الخروج» و«الخوارج» أهمية بالغة في عقل هؤلاء الشيوخ، كما يعدان مصطلحين ذوي خصوصية عند قراءة عقل السلفي ومنهجيته في التفكير، فالخوارج الثوار تسببوا في اضطرابات سياسية، متكئين في ثورتهم على مرجعية إسلامية (عقيدة الحاكمية) على مدى تاريخ الدولة الإسلامية القديمة.
انقرضت الخوارج كفرقة إسلامية منذ مئات السنين، إلا أن المصطلح بقيت له قوته وحضوره وضرورته في الخطاب السلفي «المدخلي»، إذ إنه يعبر عن عقيدة لا ترتبط بفرقة تاريخية ظلت حينا من الدهر، ثم تلاشت، بل إنه أفكار تفعل فعلتها في الأمة إلى الآن. فتكوين الجماعات هو عين الخروج في حد ذاته، والدعوة إلى الاعتصامات والمظاهرات والإضرابات والعصيان المدني من أفعال الخوارج، حتى وإن لم تستند إلى المرجعية الإسلامية؛ لأن منبت تلك الدعوات تعود إلى الفكر الخوارجي ودوافعه وأهدافه. والخروج بالكلمة هو بداية الخروج بالفعل، فلا يتصور حمل السلاح في مواجهة السلطة إلا بعد الخروج بالكلمة (الخروج الأصغر)، فالذي يدعو إلى الخروج ولا يخرج فهو والخارجي سواء (أخبث الخوارج الخوارج القعدية).
جذب هذا التوجه الكثير من المنتمين للتيار السلفي العام، بل وحتى من بعض شيوخ السلفية ذات الثقل، لتحويلها إلى تياره وانقلابها على تياراتها الأصلية ذات النفس المناهض للدولة والمتبنية عقيدة الحاكمية، وإن انسحبت من المشاركة في الحياة السياسية.
تمدد السلفيون المدخليون حتى عادوا لإحكام السيطرة على جمعية أنصار السنة المحمدية كما لم يحرموا من مساجدهم، وانتشرت فضائياتهم وكتبهم، حتى أثمرت بذرة شيوخهم في دول الجوار. وثمة شيء يلفت الانتباه في المشهد الليبي المتلاطم.. مقاتلون أقوياء من ذوي اللحى والسمت السلفي الظاهر منخرطون في القتال بجانب قوات اللواء خليفة حفتر رمز الشر عند الميليشيات الإسلامية المسلحة على كل تنويعاتها، إنه العدو الرئيسي الذي يتداعون جميعا على قتاله، إلا أن هؤلاء السلفيين (المداخلة) اختاروا أن يصطفوا خلف معسكر الدولة في مواجهة من يطلقون عليهم الخوارج (كلاب أهل النار).. سالت دماؤهم فوق رمال الصحراء، وهم على يقين أنهم على جادة السلفية لا يحيدون. نجح شيوخ التيار المصريون في ذرع بذرة منهجهم على الأراضي الليبية، ليتلقفها شيوخ وشباب قدر الله لهم أن يكونوا شوكة في ظهر سلفية أخرى لكن بوجه مسلح.
محمد أمان الجامي
تعد السلفية المدخلية المصرية (الجامية) امتدادا للتيار السلفي المدخلي في المملكة العربية السعودية، والذي برز إبان حرب الخليج الثانية 1991 نتيجة لغزو العراق للكويت في عهد صدام حسين. بدأ هذا التيار في الظهور كتيار مضاد للتيارات المعارضة لدخول القوات الأجنبية كالإخوان والسرورية، فذهب أبعد مما ذهبت إليه مؤسسات الدولة الرسمية، مثل هيئة كبار العلماء التي أفتت بجواز دخول القوات الأجنبية على أساس أن فيها مصلحة، إلا أنهم لم يجرموا من حرم دخولها أو أنكر ذلك، فجاء المدخلية واعتزلوا كلا الطرفين وأنشأوا فكرا خليطا يقوم على القول بمشروعية دخول القوات الأجنبية، وفي المقابل يقف موقف معاد لمن يحرم دخولها أو ينكر على الدولة ذلك، وذلك على أساس مرجعية سلفية تتمترس في أدلة من القرآن والسنة ويعرفون بـــ “الجامية “نسبة لمحمد أمان الجامي الأثيوبي الأصل، وهو المؤسس الحقيقي لهذا التيار، ويلقبون أيضا بـ”المدخلية” نسبة إلى ربيع بن هادي المدخلي، الذي قام باستكمال بناء المدرسة المدخلية بعد وفاة “الجامي”.