رؤى

سيد قطب .. الظلال المحجوبة

يعد سيد قطب الأديب والناقد والكاتب المحسوب على جماعات التطرف بكل أطيافها، إخوانا وسلفيين وجهاديين أحد أيقونات التطرف وأهم منظريه. الرجل الذى حكم على المجتمعات المسلمة بالردة والكفر، رغم أنه بكتبه وأفكاره شغل العالم إلا أنه لا تزال هناك ظلال خفية محجوبة عن حياته وأفكاره، أو صفحات مجهولة فيما كتبه وحجبه عامدا، وحجبته كل المجموعات الحركية التى احتفت بإنتاجه الخادم لمشروعهم.

حاول قطب نفي صلته بنصوص كتبها، وهي نصوص كاشفة عن كثير من جوانب شخصيته وتطور أفكاره، وكان يجيب من يسأله عن تطور أفكاره بين أعماله الأولى فى النقد الأدبى فى الأربعينات، والتي كانت تعلن عن ميلاد ناقد مهم فى الساحة الأدبية، وبين كتاباته المنعوتة بالإسلامية الراديكالية فى أواخر الخمسينات والستينات، بأن كل ما سبق كتابيه “في ظلال القرأن” و”معالم في الطريق” لا قيمة له فى نظره، بل كان يجحده شكلا ومضمونا. ويفسر سيد قطب إنكاره لهذه الكتابات فى فقرة من كتابه المثير للجدل “معالم في الطريق” قائلا: “إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها القراءة والاطلاع فى معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه وما هو من هواياته، ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره، فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلا إلى جانب ذلك الرصيد الضخم، وما كان يمكن إلا أن يكون كذلك وماهو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره، فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها وعلى انحرافها وعلى ضآلتها وعلى قزامتها وعلى جعجعتها وانتفاشها وعلى غرورها وادعائها كذلك، وعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين فى التلقى”.

يجحد قطب ما أنتجه فى فترة نضجه الفكري والعقلي فى الأربعينات، يوم كان مندمجا فى الأجواء الفكرية والاجتماعية لتلك الحقبة الغنية، إذ إن تلك الكتابات قد تسعف الباحث فى رسم ملامح لتلك الشخصية المثيرة للجدل. نُشرت تلك المقالات بين عامى 1940 و1946، وكان قطب قد جاوز وقتها النصف الثاني من العقد الثالث من حياته، وهى الفترة التي تتسم بالنضج والرصانة، ونحن أمام ثلاث مجموعات من النصوص الكاشفة عن تكوين سيد قطب الروحي والذهني ورؤيته للعالم والتاريح ووظيفة الإنسان فى الخلق.

تشمل المجموعة الأولى الكتابات الأدبية بما فيها من نقد أدبي صرف، مثل مهمة الشاعر فى الحياة 1932، كتب وشخصيات 1946، النقد الأدبي أصوله ومناهجه 1947، ومن محاولات قصصية أو شعرية الشاطئ المجهول 1935، الأطياف الأربعة 1945، طفل من القرية 1946، المدينة المسحورة 1946، أشواك 1947، وبما فيها كذلك من تطبيقات لمناهج التحليل الأدبي على الخطاب القرآني: التصوير الفني في القرآن 1945، مشاهد القيامة في القرآن 1947.

المجموعة الثانية من أعماله تشمل كتاباته الإصلاحية الاجتماعية، التي نشرت فى فترة الحرب العالمية الثانية على شكل مقالات وآراء وانطباعات فى عدد من المجلات، منها الرسالة والبلاغ الأسبوعي والمقتطف ومجلة الشؤون الاجتماعية، التي أصدرتها وزارة الشؤون الاجتماعية شهريا ابتداء من يناير 1940 قبل أن تتوقف سنة 1946، والتي كان سيد قطب إلى جانب سلامة موسى أكثر من كتبوا لها بانتظام.

أما المجموعة الثالثة فتضم تلك الكتابات المعروفة بالإسلامية الإصلاحية، وتمثلت فى الكتب والمقالات التي حاول أن يعالج من خلالها بأسلوب معتدل، أقرب ما يكون إلى الفكر الليبرالي التقدمي الذي يمثله التيار الاجتماعي الديمقراطي أو الحركة الفابية بانجلترا، ومسألة موقف الإسلام من الحضارة العالمية التي كان سيد قطب نفسه أول من رأى أنها تتبلور فى بوتقة الحرب العالمية الثانية، ومن أمثلة تلك الكتابات: العدالة الإجتماعية فى الإسلام 1949، والسلام العالمي والإسلام 1951، ومعركة الإسلام والرأسمالية 1951.

ويتفق معظم المحللين الذين لا يشاركون قطب رأيه حول أنها تشكل بمختلف موضوعاتها دلائل على مراحل متتالية مر بها سيد قطب انتهت بتبلور تفكيره ومعتقداته النهائية.

في هذا المعنى يرى أحمد البدوي أن قطب “بعد أن أصبح أحد الأعضاء اللامعين للجيل الثاني من النقاد المصريين، من تلاميذ طه حسين والعقاد، قد انصرف في منتصف الأربعينات إلى الاهتمام بالشؤون السياسية والاجتماعية، وأخذ ينزع نزعة إسلامية فى معالجته تلك المسائل، فآل من ناقد أدبي منحصر فى دائرة الأدب إلى كاتب يجمع بين النقد الأدبي والقضايا السياسية والاجتماعية، التي بدأت فى أول الأمر شيئا يسيرا ثم نمت وأخذت فى الانتشار بحيث أخذ الأديب الناقد يتوارى وينزاح حتى تملك الاتجاه الجديد سيد قطب كله”.

“حسن حنفي”

ويقسم حسن حنفى تطور سيد قطب الفكري والروحي إلى أربع مراحل، يراها تعبر فى نفس الوقت عن تاريخنا الثقافي منذ أكثر من نصف قرن، حيث يراه جزءا من ثقافتنا مثل طه حسين والعقاد، وهى مراحل متتداخلة فيما بينها ولكنها تتمايز بالطابع العام الذي يغلب على كل منها.

نحن إذن أمام تصورين لمعنى أو مغزى تطور سيد قطب الفكري والسياسى، يتفقان فى إبرازهما صفة الاستمرارية ووجودها فى مساره الدرامي، فتتماثل مواقف قطب واهتماماته المتتالية فى دائرة النشاط الفكري، وكذلك مواقفه وانتماءاته السياسية من ناحية، وظروف ومتطلبات الساحة السياسية والاجتماعية المصرية ذاتها قبل الثورة وبعدها من ناحية أخرى. أكثر من ذلك هناك نوع من الضرورة الداخلية والمنطق الذاتي يحركان هذا التطور وهذا المسار، فيجعلان من كل هذا المراحل خطوة إلى الأمام وإلى الأعمق، فى صيرورة تكاملية تؤدي إلى فكر نهائي يجمع ثمار كل خطوة.. هذه قراءة ترى أن شخصية قطب كانت قد اكتملت وتطورت بشكل طبيعي يحقق فيه التراكم فعله.

هناك بالمقابل قراءات تغلب صفة الانقطاع فى مسيرة قطب من قريته إلى المشنقة، ومن عرفوا بداية قطب كان من الصعب جدا أن يتوقعوا أو حتى يتخيلوا ما ستكون عليه خاتمته، بدأ معلما وانتهى زعيما لجماعات التطرف، بدأ ناقدا للأدب وانتهى ناقما على الثورة، بدأ شاعرا رقيق الحس مرهف الانفعال ينظر للحياة نظرة فنان، وانتهى غاضبا ساخطا متمردا محرضا على العنف ضد الثورة ونظامها.

مشوار حياة قطب الحافل من القرية إلى المشنقة مترع بالانعطافات والانقلابات الحادة، من وجهة النظر هذه تخلو مسيرة سيد قطب من أى منطق خاص به أو من أى ضرورة ضمنية تحركها. على سبيل المثال، يقدم لنا قطب فى “طفل من القرية” وهى رواية مهداة إلى طه حسين، مدرسا شابا قرر محاربة الخرافات السائدة، وقام مع تلاميذه بتنظيم تحقيقات وتحريات شبه بوليسية، ليثبت علميا أن الجان المترددين على بيت الأشباح ليسوا إلا أرانب أقاموا جحرهم فيه. دون الخوض فى تفاصيل الأحداث التي تتسم برومانسية شديدة أو رواياته المختلفة وأعماله النقدية المنشورة فى الأربعينات، تأخذ عملية البحث عن معنى ومغزى التجارب عنده شكل التفكير والبحث فى مسألة الإبداع الفردي، ولاسيما الإبداع الفني الذي يعتبره غاية سامية لتحقيق الإنسان لميوله ومواهبه.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن قطب كان لا يرى فى ممارسة الإبداع الفردي بحثا يائسا، بل على العكس من ذلك نجده في أعماله الفنية “التصوير الفني فى القرآن” و”مشاهد القيامة في القرآن” يشتق من تحليله للتعبيرات البلاغية القرآنية نظرية للإبداع الأدبي، مؤسسة على ما سماه التجارب الشعورية أو التذوق الفطري أو التخيل الحسي، وهو ينحو هنا منحى علميا بحتا، ويحدد موضوع تحليله لنص الخطاب القرآني المقصود هنا ليس تحديد وبناء حقيقة يجب شرحها وتفسيرها، وإنما لدراسة الأساليب التي يؤثر من خلالها النص القرآني على التذوق اللغوي والفني لناطقي العربية.

يهدي قطب آخر مؤلف خصصه للنقد الأدبي إلى روح الإمام عبد القاهر الجرجانى، أول ناقد عربي أقام النقد الأدبي على أسس علمية نظرية لا تخفي الروح الأدبية الفنية. كان قطب يريد أن يوظف الإعجاز القرآني ليؤسس عليه نظرية للبلاغة العربية وللتعبيرات الأدبية العربية، تتجاوز مرحلة المعارضة والتفرقة السطحية بين الشكل والمضمون، نظرية فشل من سبقوه في وضعها.

كما نرى رؤية سيد قطب للعالم ونظرته للحياة خاليتين تماما حينئذ من أى بعد بائس أو مأساوي يائس، تأمل تلك الفقرة: “إذ أن هذه الحياة جميلة وعظيمة، وما فى ذلك ريب، وإذا كان فى الآخرة للموعودين ما هو أجمل وأعظم، فإن هذا الأجمل والأعظم صورة مكبرة نقية من جمال الحياة ومتعتها، وإن الرجل الذي يدرك جمال الحياة فيتطلع إليه في زرقة السماء الساجية، وطلعة القمر البهيجة، وسكون الليل الرهيب، ويتسمعه في دوي الرعود، ونفحات النسيم، وهمهمة الموج على الشطآن، ويتلمسه في الجبل الشامخ، والوادي الخصيب، والقفر الموحش، والنهر المنساب، والبحر المسجور، ويعجب به في الوجه الصبوح، والصوت والحنون، والفعل الكريم، إن هذا الرجل لأعمر قلبا بالإيمان وأقرب نفسا إلى الله وأصفى روحا فى الأرض من كثيرين لا يتطلعون إلى مثل هذا الجمال”.

وفى رؤية قطب المتفائلة يتحقق الوجود فى العالم من خلال الاندماج الصوفي بين الإنسان والكل الذي يكشف عن نفسه في الحياة الروحية، فاختار الشعر ومن ثم النقد الأدبي ليكون أداته المفضلة للتعبير. هكذا نلمس بوضوح أن قطب كان إنسانا مرهفا منسجما مع الكون والحياة، قبل أن تتلبسه تلك الروح الشريرة التي جسدت انقلابا حاول أن يخفي تلك الظلال المحجوبة.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock