ربما يكمن سر نجاح مسرحية Death and the King’s Horseman (الموت وفارس الملك)، للكاتب البريطاني النيجيري الأصل، وول سوينكا، فيما تحويه من قصص وأساطير وأغاني ورقصات تحتفي بالموت وتبعث فيه الحياة. فالمسرحية تذكرنا بتقاليد ثقافية راسخة ومتشابهة تتعلق بالموت في العديد من حضارات العالم، بدءا من الحضارات القديمة التي وثقتها الكتابات المصرية والتبتية إلى “يوم الموتى” الذي يحتفل به المكسيكيون حتى يومنا هذا.
تطرح المسرحية سؤالا مركزيا يمثل أساس حبكتها الدرامية، هو: كيف يمكننا مواصلة إحياء ثقافاتنا القديمة كجزء من الهوية؟ .. تستمد المسرحية أحداثها من واقعة حقيقية شهدتها أربعينيات القرن الماضي عندما كانت مدينة يوريو النيجيرية، التي تمثل العاصمة الثقافية للزنوج اليوريوبيين، واقعة تحت الهيمنة البريطانية. ففي عام 1946، مات ملك اليوريوبيين. وبينما كان، إيليسين، قائد اسطبلات الملك الملقب بـ “الفارس”، يستعد للانتحار وفقا لعقائد وتقاليد راسخة في الثقافة اليوريوبية، يبادر سيمون بيكينجز، الحاكم الكولونيالي البريطاني، بالتدخل لمنع هذا الانتحار الطقوسي باعتباره عملا همجيا لا تقبله المفاهيم الحداثية في الحضارة الغربية.
في هذا السياق، تعالج المسرحية قضية الموت، ليس فقط من الناحية الطقوسية اليوريوبية، وإنما من منظور إنساني عام.
لكن أهمية المسرحية تكمن في بعد آخر، هو إعادة تشكيل العالم عبر بعث الحياة من جديد في جسد اللغة الإنجليزية، التي تحولت من “لغة الملكة”، الكلاسيكية المحلية إلى صياغة عالمية تسمى لغة “الأنجلوفون”، وتعني مزج اللغة الإنجليزية بلغات أخرى لخلق مجتمعات وثقافات هجينة داخل بريطانيا وخارجها.
المسرحية، وفقا لبيودون جييفو، أستاذ الدراسات الأفريقية والأدب المقارن في جامعة هارفارد، تمثل نصا مهما في الأدب الأنجلوفوني العالمي؛ حيث تمزج بين الحكم والتعبيرات اليوريوبية من جانب، والنسخة المفككة من لغة الملكة من جانب آخر من أجل تخليق كيان لغوي وليد.
وفقا لهذا المفهوم، أضحت بعض الدول في أفريقيا وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي وأقيانوسيا ومنطقة المحيط الهادي دولا أنجلوفونية. وفي الأعمال الدرامية أو الروائية النابعة من رحم هذه الثقافات، ربما تتحدث الشخصيات باللغة الإنجليزية على المستوى الظاهري، لكنها في الواقع تتحدث بلغات أخرى تزيد من إزالة الفواصل التقليدية بين إنجليزية الملكة والإنجليزية الأنجلوفونية.
وبهذا المفهوم أيضا، أضحت مسرحية “الموت وفارس الملك” إحدى كلاسيكيات الدراما الأنجلوفونية المحورية، المكتوبة باللغة الإنجليزية، لكنها تنبعث من تحت ركام ثقافة محلية حاول الاستعمار طمس معالمها، وذلك على غرار كتابات الأدباء الأيرلنديين الذين كتبوا بالإنجليزية وليس باللغة الغيلية.
في هذا السياق، تمثل الكتابة الأنجلوفونية التي تعرضها المسرحية نموذجا للمزج الثقافي واللغوي المتناغم في مقابل المعالجة الكولونيالية الغاشمة التي مارسها بيكينجز وزوجته. ففي أحد المشاهد – على سبيل المثال – يقيم الحاكم البريطاني وزوجته حفلا تنكريا يحاولان فيه إجراء تعديلات على الأقنعة اليوريوبية لتتماشى مع أزيائهم التقليدية؛ فيما يشير إلى جهود الاستعمار لنسخ الثقافات المحلية للمجتمعات المستعمَرة وإذابتها في أتون ثقافته المهيمنة.
في هذا الإطار، وفقا لجييفو: “يكفي النظر إلى عارضات الأزياء البيضاوات اللاتي يرتدين أغطية رأس خاصة بنساء الهنود الحمر في بلد تم فيه تدمير الهوية الثقافية للهنود الحمر”. ويضيف جييفو: “هذا الفصل الكولونيالي المنحاز للذات الثقافية بين الحضارة والهمجية، والحداثة والماضوية، والعقلانية والميتافيزيقا هو الصراع المركزي الذي تبرزه المسرحية”.
رغم ذلك، فإن المسرحية لا تدور بالأساس حول صراع بين ثقافات، أو صدام بين رؤى كونية، كما أنها ليست عملا مسرحيا يتناول صدعا غير قابل للرأب بين عرقين أو شعبين.
كتب سوينكا هذه المسرحية، كما جاء في مقدمته لها: “للتنفيس عن رغبة جامحة مكبوتة كانت تراودني أثناء عملي كزميل في كلية تشرشل، في كامبريدج، لتحطيم تمثال تشرشل النصفي القائم عند طرف الدرج، وتحولت فيما بعد إلى ’ميكانيزم تحفيزي‘ لكتابة هذه المسرحية”؛ إلا أنه يعود فيؤكد: “من الضروري أن أحذر المنتجين المحتملين لهذه المسرحية من أي توجه ]سياسي[ اختزالي”.
رغم ذلك، تبرز العروض العديدة للمسرحية في أوربا وأمريكا في الفترة الأخيرة عدم تخلص الذهنية الغربية من تصور “نحن” في مقابل “هم”، الذي كان مثار اعتراض سوينكا في جميع أعماله على مدى ثلاثين عاما.
ففي مقال نشرته صحيفة The Guardian، بعنوان Wole Soyinka on How He Came to Write Death and the King’s Horseman، يؤكد سوينكا: «لقد تحولت هذه العقلية في أفضل الأحوال من “الغرب” في مقابل “الآخرون” إلى “الغرب” في مقابل “الشرق” … كما لو أن التاريخ البشري لم يشهد اندماجا بين هذه الثقافات في أي مرحلة من مراحله».
بعد هذا التناول الاختزالي لمسرحيته، لا يزال سوينكا شغوفا بطرح الأسئلة الصعبة حول قضايا الهوية والاندماج الثقافي عبر إنتاج ثري وغزير من المسرحيات والقصائد، إضافة إلى الجزء الثاني من مذكراته You Must Set Forth At Dawn. فسوينكا يٌعرف نفسه دائما من خلال “أوجون”، إله الشعر والكون المادي الذي يسبر أغوار المجالات الخاصة والعامة. “إنه الإله المفضل لدي؛ لأنه الإله الأكثر إلحاحا على جميع العوالم”.