رؤى

الخلافة التي لن تعود

أحد معالم هوية الإنسان انتماؤه للعصر الذي يعيش فيه، فالإنسان المعاصر يختلف بلا ريب في نمط معيشته وحياته وأنماط امتلاكه للأسباب وحقائق العلم والعالم عن الإنسان القديم الذي كان يعيش في عصر السلف والنظام السياسي الذي كان متعارفا عليه في ذلك الوقت  وعُرف باسم “الخلافة الإسلامية”.

لم يحدد القرآن الكريم ولا السنة النبوية نمطا محددا لنظام الحكم والإدارة والسياسة، وإنما تُوفي النبي صلي الله عليه وسلم وترك الأمر شورى للأمة المسلمة التي حملت من بعده روح ما تركه من تراث وقيم ونظم. اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة ليختاروا منهم خليفة للنبي صلي الله عليه وسلم، والخليفة هنا بمعنى من يخلفه في القيام بشأن إدارة الأمة  وحمل رسالتها إلي العالمين، واختلف المهاجرون والأنصار كما هو معروف في كتب السيرة والتاريخ وقالوا منا أمير ومنكم أمير، ما يعني أنه لم يكن هناك نظام محدد للحكم بعد وفاة النبي وإلا ما كانوا اختلفوا وقد قال أبو بكر للأنصار: “لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش”، ثم اختاروا أبا بكر وبايعوه وسموه “خليفة رسول الله” أي من خلفه في تدبير شؤون المسلمين بعد وفاته. ولما أشرف أبو بكر على الموت، عهد إلى عمر بن الخطاب ليكون خليفة للناس من بعده بعد استشارة واسعة من أعلام الصحابة والأمة، وكلهم يزكي عمر ليكون خليفة من بعد أبي بكر، وذلك حتى لا يترك أمر إدارة الأمة والقيام على شأنها نهبا لخلاف الرأي وتنازع المصالح والرؤى وحتى المطامع والأهواء،  ولأن أهل المدينة استثقلوا أن يُقال خليفة خليفة رسول الله فقد أطلقوا “أمير المؤمنين” على عمر بن الخطاب، وكان لا يريد أن يُغير ما اعتبره سنة لأبي بكر ببقاء لفظ الخليفة، لكن المسلمين قالوا له إنها المصلحة فنزل على رأيهم.

ولما طُعن عمر بن الخطاب لم يشأ أن يعهد بالحكم من بعده إلى واحد بعينه كما فعل أبو بكر، وإنما جعل الأمر شورى في ستة من كبار الصحابة، وهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، ومن هنا ظهر في كتب الأحكام السلطانية من بعد عصر الصحابة من أُطلق عليهم “أهل الحل والعقد”.. واجتمع الستة بعد دفن عمر، وتنازل ثلاثة منهم إلى الثلاثة الآخرين، فتنازل الزبير لعلي، وتنازل طلحة إلى عثمان، وتنازل سعد إلى عبد الرحمن، ومن هنا ظهر في كتب الأحكام السلطانية المتأخرة في القرن الخامس الهجري ما عُرف باسم ” أهل الإمارة” و”أهل الاختيار”  وتنازل عبد الرحمن بن عوف هو الآخر ليكون هو من يختار بين علي وعثمان بن عفان ليكون أميرا للمؤمنين بعد عمر بعد تشاور واسع مع عموم المسلمين قبل اختياره.

ولما قُتل عثمان بن عفان تم اختيار علي بن أبي طالب، ليكون حاكما للمسلمين وقبلها على كره منه، فقد كان أكثر الناس استحقاقا للخلافة وأكثر الخلفاء تعرضا للاختلاف عليه في زمانه، لأنه في قلب السياسة والحكم يتم التنازع والأهواء وتتصارع المصالح حتى بين الصحابة أنفسهم. وعادت نزعات الصراع القبلي بين بني أمية وبني هاشم، وكما هو معلوم فإن المسألة القبلية وعامل العصبية العربية القبلية هو المفتاح الأهم لفهم التاريخ العربي كما يذهب ابن خلدون في مقدمته، فهو يعتبر العصبية مفتاح فهم الاجتماع العربي، ورغم تركيزه علي عنصر الدم والقبيلة كمؤشر أساس للعصبية إلا أنه يرى أنه ليس المعيار الوحيد، وإنما العصبية هي ما تقوم بها القوة التي تمكن من الحفاظ على الحكم واستمراره بعيدا عن ترك الناس فوضى لا سراة لهم، وبالتالي فإن معيار القرشية كشرط للخلافة ليس شرطا دائما ومستمرا وإنما كان ذلك في زمن أبي بكر وحتى بقاء القرشيين والعرب قوة للحكم، ثم خلف من بعدهم خلوف من الفرس والأتراك والمماليك  صاروا عصبية ليس بالنسب، وإنما بالانتماء للدولة وعالم الحكم والسياسة.

وبعد حكم علي بن أبي طالب ظهر مفهوم الملك العضوض، أي المستبد الذي لا يُشرك الأمة في شأن اختيار حكامه وإنما يستبد بها عصبة من الأسر والقبائل المساندة لها دون بقية الأمة، وشاع الظلم بلا ريب، وظهرت حركات احتجاج ومعارضة ضد الحكم المستبد في العصر الأموي والعباسي رغم إطلاق اسم الخلافة على نظام الحكم لإضفاء طابع  ديني ومقدس عليه ولتبرير الممارسات البعيدة عن قيم الإسلام التي أرساها النبي صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده.

وظل حكام العباسيين رغم ظهور دويلات لها حكام مستقلون على أطراف الدولة يطلقون على أنفسهم الخلفاء بدون أن يكون لهم من الحكم سوى الاسم، وكان آخر الخلفاء العباسيين قبل سقوط الخلافة العباسية عام 1258 م – 658ه المستعصم بالله ( 1213م – 1258 م ) الذي أُعدم علي يد الهجمة التترية التي قادها هولاكو على العالم الإسلامي، وتكسرت بغير رجعة  علي حدود الشام ومصر بقيادة سيف الدين قطز في معركة عين جالوت 1260 م.

 

انتقلت الخلافة إلى مصر، وظل العثمانيون يعتبرون أنفسهم خاضعين لها حتى جاء سليم الأول العثماني إلى مصر وأعلن نفسه خليفة للمسلمين، ومن وقتها انتقلت الخلافة إلى العثمانيين فاستخدموها استخداما دينيا وسياسيا أيضا، وظلوا يتوارثونها حتى تم فصل السلطنة عن الخلافة عام 1922م، ثم أعلن سقوط الخلافة كمؤسسة بشكل نهائي عام 1924 على يد كمال أتاتورك، وهو ما كان له صدى هائل على مستوى العالم الإسلامي وعلى مستوى النخب والمفكرين السياسيين.

الخلافة إذن ليست أصلا من أصول الدين، ولا هي نظام مقدس أو مأمور به، وإنما هي عنوان لطريقة في الحكم تم التعبير عنها بأشكال متعددة وتداولها أقوام متعددون، ومسألة التفكير في إعادة إنتاجها أو الحنين إليها باعتبارها نمطا إسلاميا للحكم ليس صحيحا، ذلك أن الإسلام لم يحدد شكلا للنظام السياسي ولا بين طريقة الحكم التي يُحكم بها الناس، وإنما تركها للعصر والزمان والمكان والمصلحة، وللناس أن يختاروا الطريقة الأمثل والأوفق والأكثر ملائمة لتطور حياتهم وتطور أفكارهم وطرائقهم في الفهم والمعرفة والتملك والاستحواذ.

 المفروض إذن وقد أعطى الإسلام أهله ومنتسبيه الحرية في الاختيار والتفكير والتخطيط والإدارة أن لا يحرموا أنفسهم تلك الحرية جريا وراء سراب موهوم يتمثل في أن الخلافة هي الطريقة الوحيدة للحكم في الإسلام، وأن إعادتها كما كانت واجب علي المسلمين.. لا تحجروا على الناس واسعا، فنظام الحكم ليس باسمه، وإنما بفاعليته وقدرته على تحقيق مصالح الناس في المعاش والحياة، وتحقيق رفاهيتهم وحريتهم وكرامتهم.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock