اجتمع لها المجد من أطرافه، فهي أول امرأة مصرية مسلمة تقف لتمثل على خشبة المسرح، وأشهر مطربات عصرها في حقبتها الذهبية الممتدة من 1905 حتى 1930، جمعت من فنها أموالا طائلة بعد أن وصلت أرباحها كل ليلة إلى 700 جنيه، وهو مبلغ مهول جدا في ذلك الزمان.. اسمها كان يدوي كالطبل في مصر وبلاد الشرق، يتهافت إلى مسرحها عشاق الفن والطرب، ويأوي إلى عوامتها في النيل كبار الوجهاء والأعيان، بل اجتمعت لديها الوزارة بأكملها، كل يخطب ودها، ويتمنى رضاها، ويتهيب شخصيتها القوية القيادية المسيطرة، ويلتذ بصوتها الذي لم يكن هناك سبيل إلى منافسته.
ولدت “زكية حسن منصور” في شهر مايو عام 1885 بقرية المهدية التابعة لمركز ههيا بمحافظة الشرقية، وبدأت الغناء وهي طفلة لا يتعدى عمرها 8 سنوات، لما تتمتع به من قدرات صوتية تذهل كل من يستمع إليها، وذاع صيتها بقرى ومراكز الشرقية ولا سيما مدينة الزقازيق. كان العام 1905 محطة فارقة في رحلتها الفنية بعد أن استمع إليها المعلم محمد فرح، صاحب مقهى الطرب بحي الأزبكية، ونجح في إقناعها بالانتقال إلى القاهرة للغناء في مقهاه التي يؤمها كبار السياسيين والأدباء والصحفيين، لكن لم يطل الأمر بالسلطانة حتى افتتحت مقهى خاصا بها، وأطلقت عليه اسم نزهة النفوس، أصبح هو الكازينو الفني الأول وقبلة عشاق الطرب.
ويصف نجيب محفوظ منيرة المهدية بأنها كانت أم كلثوم زمانها قبل صعود نجم أم كلثوم، ويقول الأديب الكبير: “لقد حفظت لها في قلبي وعلى الدوام، إعزازا بالغا، لقد أسست منيرة المهدية مجدها على خشبة المسرح عندما كان المسرح في أوج ازدهاره وعظمته”.
وكان من زوار العوامة الدائمين الفريق إبراهيم فتحي باشا، وزير الحربية، الذي كان يحضر بملابس التشريفة وعلى صدره عشرات الميداليات، وعبدالخالق ثروت باشا الذي كان رئيسا للوزارة أيضا، وحسين رشدي باشا رئيس الوزارة الذي كان يعقد اجتماع مجلس الوزراء في صالون العوامة، ويقول لها جادا: «لما أكون عندك بيروق بالي وألقى حلول جذرية لمشاكل الوطن، وأنا لازم أجيب بكرة مكتبي هنا».. فترد منيرة ضاحكة: “طيب يا باشا ما تعملني معاك وزيرة”.
على مسرحها بدأت شهرة عبد الوهاب، فبعد الموت المفاجئ لسيد درويش دون أن يتم ألحان مسرحية كليوباترا، أسندت منيرة إلى عبد الوهاب مهمة إكمال الألحان، كما أسندت إليه القيام بدور البطولة «الرجالية» أمامها، وكان عبد الوهاب لا يزال شابا صغيرا في سن أبنائها.
وقد روت منيرة المهدية مرة أن رئيس مجلس الوزراء حسين رشدي باشا دخل في أثناء عرض الأوبريت إلى غرفتها قائلا لها: «إيه الواد المفعوص عبدالوهاب ده؟ أنا أنفع في دور أنطونيو أحسن منه». فقالت له منيرة على الفور: «مافيش مانع يا باشا، بس على شرط تعين عبدالوهاب رئيسا للحكومة». فتركها ضاحكا.. والقصة تبين ما كان للسلطانة من مكانة ودلال عند كبار السياسيين.
منيرة في زي رجالي
ومن أطرف ما يروى عنها أنها التقت كمال أتاتورك مرات عدة في مقهاها «نزهة النفوس» بمصر عندما استقبلته بغناء بعض الموشحات التركية، فقدّم نفسه لها مهنئا: «اسمحي لي أن أقدم لك نفسي: أنا البكباشي مصطفى كمال».. وكانت المفاجأة الكبرى عندما لبّت مرة دعوة من كمال أتاتورك بعدما أصبح رئيسا للجمهورية التركية، فإذا هو نفسه البكباشي مصطفى كمال أتاتورك الذي قدّم لها زوجته ليزا إحدى عضوات فرقتها في القاهرة.
في جولاتها غنّت منيرة المهدية لوالي تونس أغنيته المفضلة التي اشتهرت بها «أسمر ملك روحي»، وفي البصرة نزلت ضيفة على سلطان المحمرة ليملأ حقيبتها كل ليلة ذهبا. وفي سوريا طبعت كبرى شركات السجائر صورتها على ماركة جديدة اسمتها “منيرة”.
أدت منيرة المهدية كل القوالب الغنائية، لكنها اهتمت كثيرا بالطقاطيق الخفيفة المرحة التي انتشرت في حقبة العشرينيات، ووصلنا عدد كبير من تسجيلاتها، ومن بينها: أسمر ملك روحي، يمامة حلوة، من غمزة بس، ليلة في العمر، حبك يا سيدي غطى على الكل، بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، ارخي الستارة اللي في رحنا، شال الحمام حط الحمام، يا زهرة البساتين، يا محلا الفسحة في راس البر، ما تخافش عليا أنا وحدة سجوريا، يا منعنشة يا بتاعت اللوز، والنبي يامه تعذريني، بصارة براجة.. وغيرها كثير.
وتعتبر منيرة المهدية رائدة المسرح الغنائي المصري، وقدمت عددا من روائع المسرح المصري والعالمي، مثل: كليوباترا، وكارمن، وعروس الشرق، وفى صيف ١٩١٥ وقفت منيرة المهدية على خشبة المسرح مع فرقة عزيز عيد، لتؤدى دور «حسن» في رواية للشيخ سلامة حجازى، فكانت بذلك أول سيدة مصرية تقف على خشبة المسرح مما كان سببا لزيادة الإقبال على المسرحيات، وأصبحت فرقة عزيز عيد تنافس فرقة سلامة حجازى.
لقاء يجمع بين السلطانة وعبد الحليم حافظ
كانت منيرة المهدية تكتب على الأفيشات “الممثلة الأولى” بالرغم من أنها كانت تقوم بدور رجل، ثم انفصلت عن فرقة عزيز عيد وكونت فرقة خاصة بها أسمتها “الممثلة المصرية”، وقامت بإعادة أعمال الشيخ سلامة حجازي، وذلك بمساعدة مخرج فرقتها عبد العزيز خليل، فقدّمت أشهر أعمال حجازي ومنها صدق الإخاء، وصلاح الدين، وأوبرا عايدة.. كما كانت أول مصرية تغني باللغة العربية أوبرا كارمن وأوبرا تاييس، وكانت بدلة رقصها في مسرحية الغندورة مرصعة بكاملها بالجنيهات الذهبية الحقيقية تحفظها بعد انتهاء التمثيل كل ليلة في خزانة بنكية.
تعاملت منيرة المهدية مع كبار الملحنين، ومنهم الشيخ سيد درويش، وكامل الخلعي، وزكريا أحمد، وداود حسني، ومحمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي. واكبت منيرة المهدية الحركة الوطنية بأغانيها، واستغلت نفوذها ومكانتها ليستمر التياترو الخاص بها مفتوحا رغم تغنيها باسم سعد زغلول ومطالبتها بجلاء الاحتلال الإنجليزي، في وقت أغلقت فيه قوات الاحتلال عددا من المسارح الوطنية ومن ضمنها مسرح سيد درويش، ونجيب الريحاني وبديع خيري.
كانت منيرة المهدية أول مطربة تؤدي الأغاني الوطنية قبيل قيام ثورة 1919، ومن هذه الأغاني أوبريت من كلمات أمين صدقي يقول فيه: يا مصريين يا وطنيين.. قوموا كده مالكم نايميين.. أحكام عرفية.. ولا فيش حرية.. وآدي قوانين استثنائية.
وبعد نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل، أصدر المندوب السامي البريطاني قرارا بمنع ذكر اسم سعد زغلول في أي عمل فني، وعقاب من يخالف بالسجن 6 أشهر والجلد 20 جلدة. لكن منيرة تحايلت على القرار وغنت على مسرحها زغلول يا بلح زغلول، فكان الجمهور يهتف في الصالة: سعد سعد يحيا سعد، كما غنت كلمات تقول: شال الحمام.. حط الحمام.. من مصر لما للسودان.. زغلول وقلبي مال إليه.. أنده له لما أحتاج إليه.
طقطوقة أسمر ملك روحي
بدأ عرش منيرة المهدية في الاهتزاز مع الصعود الصاروخي لأم كلثوم، نهاية العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، حتى أفل نجمها تماما، واعتزلت الحياة الفنية نحو 3 عقود قبل أن ترحل عن دنيانا في 11 مارس 1965. نالت سلطانة الطرب العديد من الأوسمة، من أهمها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ومنحه لها الرئيس جمال عبد الناصر عام ١٩٦١.