منذ السنوات الأولى لتأسيسه جماعة الإخوان المسلمين، أصر حسن البنا على تمييز الجماعة عن كل فئات المجتمع المصري، إلى درجة أن الجماعة ناقشت تمييز أفرادها بشارة أو علامة.. وبمجرد انتقال المركز العام للجماعة من شارع الناصرية إلى ميدان العتبة الخضراء، وافق المرشد المؤسس على مقترح للأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية للإخوان، بأن تكون شارة الجماعة “قطعة معدنية مستديرة في مساحة القرش محدبة السطح، يطلى سطحها بالميناء الزرقاء، ويرسم عليها سيفان متقاطعان، يحملان مصحفا بلون أحمر، ويكتب تحت تقاطع السيفين كلمة “وأعدوا”، وتعلق هذه الشارة بدبوس بثبت في ظهرها”.
محمود عبد الحليم صاحب فكرة تمييز الاخوان بشعار خاص
ولم يكتف البنا بهذه الشارة، لكنه قرر أن يلبس كل فرد في تنظيمه “دبلة” من الفضة لها عشرة أضلاع، كُتب على ضلعين منهما كلمتا “الإخوان المسلمون”.. ويروي محمود عبد الحليم في المجلد الأول من موسوعته “الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ” أن الشارتين “انتشرتا انتشارا عظيما في القاهرة والأقاليم… وصارتا مميزتين للإخوان وسط المجتمع.. وكان هذا المظهر بمثابة نزول بالدعوة إلى الميدان”.
وبالرغم من إن هذا التمييز الشكلي يدل على حرص الجماعة على الظهور بمظهر مختلف عن عموم الشعب، إلا أنه يبقى شكليا، ويمكن أن نجد له نظائر عن جماعات أو أحزاب كان لها شعارات ورايات.. لكن يختلف الأمر في حالة الإخوان بسبب إصرار حسن البنا على أن يعلق كل عضو في الجماعة الشارة على صدره، وأن يلبس “الدبلة” في إصبعه.
لكن أخطر ما حرص عليه البنا هو أن يقدم أفكارا في صورة تعاليم مركزة ومختصرة، اعتبرها تمثل الفهم الصحيح للإسلام، وفرض هذه المفاهيم على المستوى الأعلى من مستويات العضوية في الجماعة، من خلال عشرين أصل، تمثل توضيحا لركن الفهم، الذي جعله البنا أول أركان البيعة في تنظيمه.
كان عمر الجماعة نحو 10 سنوات، حينما أصدر حسن البنا أخطر رسائله “التعاليم”، وخاطب بها “الإخوان المجاهدين”، وكان يعني بهذا التعبير وقتها أعضاء النظام الخاص، قبل أن تصبح الرسالة مفروضة على كل عضو من أعضاء الجماعة بعد رحيل البنا، وسيطرة عناصر النظام الخاص على التنظيم.. وقد كتب البنا تقديما قصيرا جدا للرسالة، لكنه يبين بجلاء لكل من يطالعه أن في الجماعة مستويات للعضوية، كما يبين أن الرسالة موجه لمستوى أعلى، من خُلص الأعضاء، وأن غيرهم في منزلة أقل، تقدم لهم الجماعة أشكالا من النشاط الدعوي والإداري الخفيف، ويقول نصا: “فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات، وهي ليست دروسا تحفظ، ولكنها تعليمات تنفذ… فإلى العمل أيها الإخوان الصادقون… أما غير هؤلاء، فلهم دروس ومحاضرات, وكتب ومقالات, ومظاهر وإداريات, ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات, وكلا وعد الله الحسنى”.
صدَّر البنا رسالته بأركان البيعة العشرة: الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الإخوة، الثقة.. ثم بين مراده بالفهم قائلا: وأريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز.. ثم عرضها أصلا تلو أصل.
ولم تكن أصول البنا العشرين على درجة واحدة من الأهمية، فبعضها تضمن معان خطيرة وإشكالية، كان لها أثر كبير في فكر أعضاء التظيم، بل وفي فكر التيارات الإسلامية الحركية بشكل عام، وهذه الأصول الإشكالية هي ما سنعرض لها في مقالات تالية.. وبعضها تضمن أفكارا عادية، كان البنا مسبوقا فيها، سواء في معناها، أو حتى صياغتها.
ولابد من الإقرار بأن حسن البنا في أصوله العشرين، بلغ قدرة عالية في التعبير عن أفكاره بصيغ صارمة محكمة، وبطريقة تختلف عن كل ما كتبه في رسائله، أو قاله في خطبه ودروسه، فجاءت الأصول العشرين كأنها “نص” محكم شديد الاختصار يحتاج إلى الشرح والتوضيح.
وبعد رحيل المرشد المؤسس تعامل قادة الجماعة مع الأصول العشرين بدرجة من الاحترام والتبجيل الذي يصل حد التقديس.. وتصدى لشرحها عدد من قاد الإخوان ودعاتها، بمصر وخارجها، من بينهم على سبيل التمثيل: محمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وعمر التلمساني، وعبد الكريم زيدان، وسعيد حوى، ومحمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، وجمعة أمين، وعبد المنعم تعيلب، وعبد السميع محمود، وعبد الخالق الشريف، وعبد الله قاسم الوشلي.
ويمكننا أن ندرك التعامل التبجيلي الذي تعامل به قادة الإخوان مع الأصول العشرين، ومع رسالة التعاليم بالإشارة إلى ما قاله شراح الجماعة عن الرسالة وعن الأصول.. فعن الرسالة يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب: “الحديث عن رسالة التعاليم وما حوته من توضيح لطريق الدعوة وبيان لمعالم المستقبل، قد وضعت قدم المسلم على بداية الطريق للوصول إلى الهدف وهو أن تكون كلمة الله هي العليا في هذا الكون.. إنَّ الحديث عن هذه الرّسالة ما هو إلاّ سياحة في جوانبها، وليس شرحا لها بالمعنى التقليدي المعروف، وإن شئت فقل هي قراءة جديدة لها.. إن الوقوف من هذه الرّسالة موقفَ الشارحِ مُرتقى صعبٌ، تقصر دونَه هاماتُ الرّجال”!!
أما عمر التلمساني، المرشد العام الأسبق للجماعة، فيقول عن الرسالة: “إنَّها تحتل مكانة خطيرة ودورا بالغ الأهمية، تضطلع به في بناء الصف المسلم…”.
ولم تخف كتابات قادة الجماعة أن الأصول العشرين تهدف إلى صب المسلمين في قالب واحد، وأن يحملوا للإسلام فهما واحدا، في رغبة معلنة للتنميط و”قولبة” أعضاء الجماعة.. ويقول محمد عبد الله الخطيب الذي شغل لسنوات طويلة منصب مسؤول التربية في الجماعة: “إن رسالة التعاليم بقواعدها تجمع المسلمين وتجعلهم جسدا واحدا وفهما واحدا وتنمي بل وتثري حياة كل من رغب في العمل للإسلام.. تنمي فكره وتجدد فهمه الصحيح للإسلام وتدفعه إلى الأمام بعيدا عن الجدل والفلسفة التي لا طائل من ورائها.. إن رسالة التعاليم تعمل لتحديد الشخصية الإسلامية العاملة المجاهدة وتضعها في إطارها الصحيح.. الإطار الذي تتمثل فيه الإسلام عقيدة وفكرا وأخلاقا وسلوكا والمجتمع الذي يلتزم ويقتنع بالإسلام كنظام وشريعة وحياة نزل بها الوحي من عند الله”.