رؤى

أصل «الشمول» .. ركيزة الإخوان للهيمنة

“الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء”.. بهذا الكلمات صاغ حسن البنا الأصل الأول من الأصول العشرين لركن الفهم، أحد الأركان العشرة التي يبايع عليها أعضاء الجماعة.

يحمل هذا الأصل كثيرا من الإشكالات التي ألقت بثقلها على وعي أعضاء جماعة الإخوان، بل تخطت الجماعة إلى غيرها من التنظيمات الإسلامية الحركية.. فالمعنى العام لهذا الأصل يتلخص في أن للإسلام كلمة في جميع مناحي الحياة، وأن للشريعة حكما في كل حركة وسكنة: نظام الحكم، القوانين، الحكومة، الاقتصاد، القضاء، الثقافة، العلم.. كل ذلك يساويه البنا بالعقيدة الصحيحة “سواء بسواء”.. فينقل ما استقر على أنه فروع إلى مرتبة الأصول الكبرى والعقائد.

ومن الواضح أن البنا يصوغ هذا الأصل مستندا إلى ما استقر في الفقه الإسلامي، من أن للشريعة أحكاما خمسة هي الوجوب، والندب، والتحريم والكراهة والإباحة.. وأن أي فعل أو قول أو حركة أو سكون لابد وأن يشملها حكم من هذه الأحكام، فالفقيه إذا سئل عن فعل ما.. هل هو جائز شرعا أم لا.. لن تخرج إجابته عن الإفتاء بأن هذا الفعل واجب إذا كان الشرع قد طلبه طلبا جازما، أو بأنه مندوب إذا كانت النصوص قد طلبته طلبا غير جازم.. أو أن أن يفتي الفقيه بأن هذا الفعل حرام إذا كانت النصوص تنهى عنه نهيا جازما، أو مكروه إذا كان النهي غير جازم.. وأن يفتي بإباحته، إذا كان الشرع قد أقره أو سكت عنه.

 

ومن يتأمل هذه الأحكام الخمسة يدرك أن “الشمول” لا يتأتى إلا بسبب الحكم الخامس، المتمثل في إباح ما سكت عنه الشرع، إذ إن الأوامر والفروض والواجبات محدودة، وكذلك النواهي محدودة أيضا، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم بقوله (وقد فصل لكم ما حرم عليكم).. وتبقى معظم جوانب الحياة في دائرة المباح، لأنها هي الأصل، فلا تحريم ولا وجوب إلا بنص واضح.

ولأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا أمر ولا نهي إلا بنص، فإن الحكم الخامس لا يعدو أن يكون حكما نظريا، وتحصيل حاصل، ومحاولة لـ”تسوير” حركة الإنسان في الحياة، حتى لا تكون خارجة في أي نشاط لها عن أحكام الشرع وتقريرات الفقهاء.. وبها أيضا يتحقق هذا الفهم المزعوم للشمول، الذي يبني عليه أعضاء الجماعات نظرتهم لكل صغيرة وكبيرة، ولكل موقف سياسي، ولكل عمل فني، ولكل إنتاج فكري.. لذا يطالب الإخوان بحكم إسلامي، دون أي تصور حقيقي لهذا الحكم، لأن التصورات والرؤى والأفكار هي برأي الإخوان أمور غير ذات أهمية، بل إن مفكر الإخوان الأشهر سيد قطب اعتبر هذه المسائل ومعها ميدان الدراسات الإسلامية ومحاولات تقنين الفقه.. اعتبرها من مظاهر الجاهلية.. لأنها أتت قبل أن يخضع الناس لربوبية الخالق، ويرضوا بحكمه ابتداء.. فالرؤى والأفكار فروع.. أما شمولية الإسلام فهي أصل.. بل هي الأصل الأول كما قرر المرشد المؤسس.

كان من نتائج هذا الأصل على وعي الإخوان أنهم أصبحوا يرون أنفسهم الجماعة الممثلة لـ”الإسلام الحقيقي”.. فما عداها من جماعات وأحزاب وتنظيمات إما أنها معادية للإسلام، أو بعيدة عن هدى الدين، وفي أقل الأحوال تحمل إسلاما منقوصا يهتم بالتربية دون السياسة، أو بالعقيدة دون الجهاد، أو بالفرد دون الجماعة، أو بالرجال دون النساء، أو بالعمل الخيري دون العمل الدعوي.

لكن هذا الأثر رتب آثارا أخرى شديدة السلبية، فإذا كانت الجماعة –نظريا- تطالب بحكم إسلامي، فإنها من الناحية الفعلية لا تعترف أن الإسلام يحكم إلا إذا أصبحت هي في السلطة، ووصل قادتها إلى سدة الحكم.

وقد تعمد الإخوان أن يكون كلامهم عن الحكم الإسلامي ذا شكل فضفاض جدا، يسمح لهم باتهام كل مخالف لهم بأنه بعيد عن أحكام الدين، وأيضا يسمح لهم بتبرير عدم التزامهم بالأحكام الشرعية التي كانوا يطالبون بها غيرهم، ويُبقي أعضاء الجماعة وأنصارها تحت هيمنة وتأثير قادة التنظيم، باعتبارهم حراس الدين وحماة الشريعة، التي تكالب عليها الناس في الداخل والخارج والشرق والغرب.

وبهذا الفهم أصبحت كل الهيئات الإسلامية التي لا تتبع الإخوان هيئات بعيدة عن الإسلام الشامل، أي أنها –في نظر الجماعة- بعيدة عن الفهم الصحيح للدين، سواء كانت هذه الهيئات رسمية أم شعبية، مثل الأزهر، والأوقاف، والطرق الصوفية، والدعوة السلفية، والجمعية الشرعية.

كان من أثر أصل “الشمول” على الإخوان أن الجماعة حرصت على أن تمثل الإسلام الشامل، ليس بالفهم فقط، ولكن بالممارسة العملية، من خلال الاهتمام بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ذكرها هذا الأصل الهام من الأصول البنا العشرين.

فسياسيا، انغمست الجماعة بقوة في العمل العام، بدءا من إصدار البيانات وإعلان المواقف، مرورا بالمشاركة الانتخابية، ووصولا إلى ممارسة الاغتيالات السياسية والتفجيرات.. وبعد خروج أعضاء الإخوان من السجون في بدايات عهد الرئيس الراحل أنور السادات، شاركت الجماعة في معظم الاستحقاقا الانتخابية بلدية كانت أم تشريعية، وكذلك انخرطت بقوة في الانتخابات البرلمانية، وهيمنت على معظم النقابات طوال سنوات عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.. كما كان لها هيمنة واسعة على الاتحادات الطلابية في معظم الجامعات المصرية، منذ أواخر السبعينات.

وفي الجانب الاقتصادي، نشطت الجماعة عبر عدد من رموزها في الدعوة إلى ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، وزعم دعاة الجماعة ومفكروها أن الإسلام أتى بنظام اقتصادي متكامل، كما شنت الجماعة الغارة على الفوائد البنكية باعتبارها ربا محرم، لاسيما بعد أن أصدر الشيخ محمد سيد طنطاوي، مفتي الجمهورية عام 1988 فتواه الشهيرة بإباحة فوائد البنوك.

 

ولم تكتف الجماعة في هذا الميدان بالدعوة والتنظير، وإنما انخرطت في كثير من الأنشطة الاقتصادية، فأنشأت الشركات التجارية، ومكاتب الاستيراد والتصدير، والمقاولات، وشركات الصرافة.. وشجعت أعضاءها على الأنشطة التجارية، مع منح هذه الأنشطة سمة إسلامية ولو بالاسم فقط، فانتشرت في مصر لافتات من نوع: المكتب الإسلامي للهندسة.. الشركة الإسلامية للاستيراد والتصدير.. محلات نور الإسلام للأدوات الكهربائية.. مدارس كذا الإسلامية الخاصة.

وثقافيا، حرصت الجماعة على توفير ما اعتبرته بديلا إسلاميا للفكر العلماني الوافد، فأنشأت المكتبات ودور النشر، وأغرقتها بمؤلفات قادة الجماعة من مصر وخارجها، وأفسحت المجال للكتابات التي تنقد مشاريع أعلام الفكر المصري، ولا سيما طه حسين وعلي عبد الرازق، كما أنشأت روابط للأدب الإسلامي، فكانت منصات لشعراء الجماعة وأعضائها المهتمين بالأدب عموما.

وفي ميدان العمل الخيري، كان للإخوان نشاط كبير جدا، تمثل في جمع أموال الزكاة والصدقات، وإعادة توزيعها على الفقراء، وإنشاء المستشفيات التي تعالج المرضى مجانا أو بأجور رمزية، كما كان للجماعة دور كبير في رعاية الطلاب الفقراء، لا سيما الوافدين من القرى والأرياف، وتسهيل تسكينهم وحصولهم على الكتب والملازم الدراسية، وأيضا كان للإخوان مساهمة واضحة في تقديم المساعدة للأيتام، وتجهيز البنات استعدادا لتزويجهن.. ونشط الإخوان أيضا للوقوف مع دوائرهم عند حالات الوفاة، بتوفير من يقوم بالغسل والتكفين والدفن والدعاء للميت.

 

ودعويا، انتشر الإخوان في المساجد، وسيطروا على عدد كبير منها، وقدموا فيها الدروس والندوات وخطب الجمعة، ونظموا صلاة التراويح والتهجد والإفطار والسحور الجماعي، وكثيرا ما تلقى خطباء الإخوان تكليفات بموضوع محدد للخطبة، كما استخدموا المساجد كثيرا في عقد الاجتماعات التنظيمية، ودعوة أفراد جدد للانضمام إلى الصف الإخواني.

ومن الميادين المهمة التي اقتحمتها الجماعة، الميدان الفني، فقد أنشأ الإخوان –لاسيما في التسعينات- فرقا فنية لإحياء الأفراح، وتقديم الأناشيد الإسلامية بديلا عن الأغاني التي يعتبرها الإخوان مخالفة للشريعة، كما حرصوا على إضفاء طابع خاص على أفراح أعضائهم، وعرف الناس في مصر لأول مرة ما يسمى بالفرح الإسلامي، وهو بنظر الإخوان لا يتضمن أغان خليعة، ولا يختلط فيه الرجال بالنساء.

والحقيقة أن الإخوان – وتحت راية شمولية الإسلام – حاولوا إنشاء مجتمع مواز للمجتمع، وحكومة موازية للحكومة، ودولة موازية للدولة.. فما دام الإسلام شاملا فلابد أن تكون الجماعة شاملة، وإلا وقعت –بزعمهم- تحت نطاق قوله تعالى في سورة البقرة “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض”.

لكن من المفارقات والتناقضات المعتادة من الإخوان، أن الجماعة التي قامت على الشمول، واعتبرت أنه الأصل الأول للفهم، بنت تنظيمها على التخصص، ووزعت أعضاءها على أقسام، فهذا يعمل في قسم التربية، وهذا في النشر، وذاك في البر، وثالث في الدعوة، ورابع في الطلاب، وخامس في السياسة… مما يعني أن الفرد لن يدرك هذا الشمول إلا بالانتماء إلى تنظيم شامل، إذ لا طاقة لفرد مهما بلغ نشاطه أن يغطي كل هذه الأقسام.

ومن المؤكد أن الجماعة جعلت كل نشاطها، دعويا أم خيريا.. اقتصاديا أم اجتماعيا، يصب في الهدف السياسي للجماعة، متمثلا في السيطرة على مقاليد السلطة، بزعم إقامة دولة إسلامية، تحقق الشمول كما قرره حسن البنا.

وبسبب هذا الجمع بين الأنشطة المتعددة، والتخديم بها على الأهداف السياسية للتنظيم، توجه السلطات أحيانا ضربات أمنية وقانونية لهذه الأنشطة.. وعندها يتباكى الإخوان، بحجة أن السلطة منعت خطيب جمعة.. أو جمدت نشاط جمعية تساعد الفقراء.. أو منعت حلقات لتعليم القرآن والتجويد.. والحقيقة أن كل هذه الأنشطة ما هي إلا أشكال للعمل السياسي والتوظيف الانتخابي.. وبالطبع لا يسأل أفراد الإخوان أنفسهم: لمَ لم تمنع السلطة حلقات التلاوة في مساجد الأوقاف؟ ولم تترك كثيرا من جمعيات البر؟.. فقط يكتفي أعضاء الإخوان باعتبار أن التضييق عليهم هو تضييق على الإسلام الحقيقي “الشامل”.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker