نبه الإسلام إلى أن الله ينظر إلى القلوب والأعمال ولا ينظر إلى الصور والأشكال.. “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأشكالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”، و”إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” وفي رواية أخرى للحديث “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
كنت أظن أن ما ورد في الحديثين هو قول مأثور وليس قولا للنبي صلي الله عليه وسلم، وحين عدت لمعاجم الحديث وجدته حديثا صحيحا، فذلك معناه أن الأساس في عمل الإنسان هو القلب، والقلب هو محل ما يمكن أن نصفه بالعبادات الباطنية وعلى رأسها النية والإخلاص والتجرد والصدق والبعد عن الرياء والنفاق، والعمل هو الأثر الظاهر في المجال الذي يتحرك فيه الإنسان في الحياة الدنيا فيجعل من هذه الحياة الدنيا واحة للخير وساحة للجمال ويجعل منها تعبيرا عن التكافل الاجتماعي والنظام والنظافة وجعل النفس الإنسانية سبيلا مسخرا لخدمة الآخرىن والقيام على ما يصلح أمرهم وشأنهم.
ومع صعود الحالة السلفية في مصر في مطلع السبعينيات وتحولها إلى ظاهرة تنتشر بقوة في المجتمع المصري، لاحظنا الاهتمام بما أُطلق عليه “الهدي الظاهر” وأنه اتباع لسنة النبي صلي الله عليه وسلم، ولاحظنا الاهتمام بالشكل الخارجي للإنسان السلفي أو المنتمي للتيارات الإسلامية ممن تأثروا بتلك الحالة السلفية المكتسحة للبلاد، فوجدنا الشباب الصغير يلتزم بتقصير الثياب ولبس السراويل أسفلها وجعلها دون الكعبين، ويميل لانتعال الشباشب الجلدية وقد يطيل شعره حتي يضرب منكبيه، وقد يكتحل كحلا واضحا في عينيه والعادة في مصر أن الاكتحال للنساء والبنات دون الرجال، وهو ما جعل ذلك أمرا مثار تعجب وربما سخرية وموضوعا لتندر الناس والإعلام.
ولأن التحول الشكلي هو تحول رمزي تميل إليه النفس، خاصة من الشباب حديث السن قليل العلم باعتباره تمييزا له عن بقية الجماعة التي يُطلق عليها عادة العوام أو الناس العاديين أو عموم المصريين، والانتماء لهوية جديدة وجماعة مختلفة تهتدي بالهدي الظاهر للنبي صلي الله عليه وسلم وتعلن الانتصار للدين. هذا التحول الشكلي مسألة بسيطة جدا، فأسرة ذلك الشباب وأقرانه ومعارفه يستيقظون فجأة على مشهد جديد له يجعل منه موضوعا ومحل اهتمام ونقاش وتساؤل وهو ما يجعل نفسه مسرورة بذلك مرتاحة له، وهو يظن أنه ينصر الدين بينما هو في الحقيقة ينتصر لميول نفسه ونزعاتها وجعلها محط الاهتمام من الآخرىن.
وفي السياق السلفي وصعود التدين الشكلي في كل ربوع البلاد المصرية حتى وصوله للقرى والنجوع والحواري بدأ التعبير الشكلي للتدين يأخذ أبعاده في الهجوم على عادات الناس وأعرافهم، ومن ذلك مثلا اعتبار إقامة العزاء على الميت بدعة، وأن السنة هي صرف الناس من على المقابر دون إقامة سرادقات لتقبل العزاء، واعتبروا أن شكل المقابر لا يعبر عن السنة، وأن القراءة على الميت بعد دفنه لا يدخل في صحيح الدين، وأن وقوف الناس على المقابر صفوفا وتلقي العزاء من جانب أهل الميت ليس صحيحا في الدين.
وبعض سالكي مذهب التدين الشكلي دخلوا في صراعات داخل المساجد بسبب قراءة القرآن في المسجد قبل صعود الإمام للخطبة، وبعضهم أثار مشاكل بسبب عدم إطلاق اللحية من قبل بعض أئمة المساجد، وبعضهم كان ينبه المصلين بألا يقول بعضهم لبعض عقب الصلاة”حرما”، أي دعاء بأن تكون صلاتنا في الحرم المكي والنبوي، وبعض هؤلاء كانوا يرفعون أصواتهم بأدعية ختم الصلاة بعد الانتهاء منها فيشوشون على المصلين ويحدثون نقاشا ومشاكل عديدة بينهم.
ولم ينتبه أولئك الذين اتخذوا من التدين الشكلي الظاهري أن هناك عادات للناس وأعراف في الملابس والتقاليد وهي مأخوذة إما من الشرع أو الحاجة إليها كما هو الحال في بناء دور الضيافة وأماكن العزاء وفي استيفاء الحقوق والصلح وإقامة الحياة والتدين، كما أن علماء الأصول وعلي رأسهم العالم المصري “شهاب الدين القرافي” (626ه – 684ه) ميز بين أفعال النبي صلي الله عليه وسلم وتصرفاته، واعتبر أن بعضها كملابسه ونومه وتبسمه وأحواله كإنسان هي مسألة متعلقة بصفته الإنسانية وليس شرطا أن تكون كأحواله في التشريع العام في العبادات والمعاملات. ويعد كتاب القرافي “الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام” هو العمدة في التمييز بين تصرفات النبي وأفعاله، وفي كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، نبه العالم التونسي “محمد الطاهر بن عاشور” (1879-1973م ) أيضا على ضرورة التمييز بين تصرفات النبي وأفعاله.
يركز التدين الشكلي على الهيئة لا على جوهر العمل، ويصطنع مشكلات شكلية مع المجتمع حول قضايا جزئية وصغيرة، بتكبير تلك القضايا وجعلها محلا للتركيز والاهتمام، وبينما الإسلام دين العمل ودين الإيجابية والتركيز علي القيم المجتمعية الإصلاحية فإن التدين الشكلي يبتعد عن ذلك ويأخذ المجتمع إلى تضخيم الشكل علي الجوهر والمظهر علي المخبر. ويُعد اعتبار المتدين الشكلي أنه يمثل العقيدة الصحيحة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة بينما الآخرون ليسوا كذلك، وهو هنا لا يواجه مجتمعه وإنما يواجه تراثه وعلماءه السابقين ناعيا عليهم أنهم من الأشاعرة والماتريدية، بينما هو الذي يملك الحقيقة المطلقة والعقيدة الصحيحة.
المقال ممتاز و حقيقي للغاية و نحن في حاجة إلي مقال ثاني من الكاتب عن الدين الحقيقي و عن التدين الطبيعي الذي يعبر عن الفطرة الصحيحة السليمة الطبيعية ….