يطالب حسن البنا أعضاء جماعته بترك كل أشكال الجدال، لاسيما في تلك المسائل التي اعتبرها البنا نظرية لا فائدة عملية في تناولها، فيقرر في أصله التاسع: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة.”
وقد ترك هذا الأصل أثرا واضحا على الإخوان، فأصبحت نظرتهم لكل أشكال التنظير أو الجهد الفكري والفلسفي نظرة ارتياب، فالجهود يجب أن تتوفر للعمل والحركة وبناء التنظيم، وكتب حسن البنا رسالته الشهيرة “هل نحن قوم عمليون؟” يؤصل فيها لهذا المعنى، وينعى على أصحاب الأسئلة والاستفسارات النظرية بأنهم “إذا فاجأتهم بالطريق العمليّ، وأوضحت لهم مناهج العمل المثمر، وأخذت بأبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأيديهم إلى الطريق المستقيم لوّوا رؤوسهم وحاروا في أمرهم وأسقط في أيديهم، وظهر الاضطراب والتردد في ألفاظهم وحركاتهم وسكناتهم، وأخذوا ينتحلون المعاذير ويرجؤونك إلى وقت الفراغ، ويتخلصون منك بمختلف الوسائل، ذلك بعد أن يكونوا أمضوك اعتراضا وأجهدوك نقاشا ومحاوره، ورأيتهم بعد ذلك يصدون وهم مستكبرون”.
كما وأدت الجماعة مبكرا كل أشكال النقد التنظيمي، أو الحوار بين الأعضاء في شؤون التنظيم، تحت لافتة أن هذه الممارسات هي من “التناجي” المنهي عنه شرعا.. فمجرد إطلاق وصف “النجوى” على الحوار التنظيمي بين أعضاء الجماعة يعني أن هذا الحوار مؤثم، لأن “النجوى من الشيطان”، ولأنها تؤدي إلى أن يحزن الذين آمنوا.
وكان من أثر هذا الأصل أن الجماعة أدارت ظهرها للثقافة والأدب والفلسفة، بل إنها أهملت تماما كل إنتاج المفكرين الإسلاميين، من محمد عبده حتى اليوم، بما في ذلك إنتاج مفكريين قريبين جدا من الفكر الإخواني العام ومن مواقف الجماعة السياسية، من أمثال محمد عمارة، أو سليم العوا، أو طارق البشري، أو فهمي هويدي، أو أحمد كمال أبو المجد، فليس لهؤلاء كتاب واحد يُدرس ضمن مناهج الإخوان النظرية، ولا توجه الجماعة أعضاءها لمطالعة هذا الإنتاج مطالعة حرة.. وحتى الشيخ محمد الغزالي، لم تحتف الجماعة بإنتاجه الفكري، ولم تروج بين أعضاءها لكتاباته ذات الطابع النقدي، وإنما اختارت منها تلك الكتب “منزوعة الدسم الفكري” مثل” جدد حياتك، وخلق المسلم، وعقيدة المسلم.
وحتى مع مُنظر الإخوان الأول سيد قطب، لا تحتفي الجماعة إلا بمناطق معينة من إنتاجه، تركز على أفكار الحاكمية والجاهلية وضرورة تكوين طليعة بعث إسلامي، فتفرض الجماعة على أعضائها دراسة “معالم في الطريق” ومختارات واسعة من “في ظلال القرآن.. لكنها تهمل تماما أعمال قطب من نوع “معركة الإسلام والرأسمالية”، أو “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، أو التصوير الفني في القرآن”، وبالطبع تتجاهل الجماعة كل إنتاج قطب الأدبي والنقدي.
وقد كان لسيد قطب نفسه دور كبير في ترسيخ فكرة البعد عن التنظير وبذل الجهود الفكرية، حتى لو كانت تلك الجهود تتناول التجديد الفقهي، أو تقنين الشريعة الإسلامية، إذ يرى قطب ألا طائل من وراء كل ذلك إلا بعد أن يتحقق الإسلام في تجمع حركي، يستمد كل عقائده وتصوراته من الدين، ويفاصل الواقع الجاهلي.
ويرفض الإخوان كل أشكال القراءة النقدية للتاريخ، لاسيما فيما جرى بين الصحابة من خلاف وحروب، ولا يتناولون في خطبهم ودروسهم موقعة الجمل أو صفين أو كربلاء، تجنبا لإثارة الأسئلة المحرجة، ولا يتعرضون لوقائع وأحداث التاريخ الإسلامي إلا من خلال رؤية مناقبية تتجاهل الجرائم والانتهاكات، وهم في كل هذا يستظلون بلافتة البعد عن الجدل، وترك ما لا ينبغي عليه عمل أو حركة تسهم في تقوية عضلات التنظيم أو تضم له عضوية جديدة، أو تساهم في توسيع شعبيته.
وتبرر الجماعة رفضها لمناقشة ما جرى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بضرورة احترام الصحابة جميعا، وتأويل مواقفهم على أحسن وجه، وترك الحكم عليهم، باعتبار أن الله قد ارتضاهم لصحبة نبيه ومناصرته.. لكن هذا الإمساك النقدي لا يتوقف عند الصحابة، بل يمتد ليشمل التابعين، ثم عهود الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية.. ومن الواضح أن الجماعة لا تعتبر أن التناول التاريخي جدليا، إلا إذا حمل رؤى نقدية، وهنا، تراه الجماعة مضيعة للوقت، وتنظيرا فارغا، ليس من أولويات قوم حركيين.
أما في أصله العشرين فيقرر حسن البنا: “ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض – برأي أو بمعصية – إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر”.
يرى قادة الإخوان أن هذا الأصل قاطع في رفض التكفير، وكثيرا ما استشهدوا به للتدليل على أن الجماعة أبعد ما تكون عن الوقوع في تكفير المجتمع، أو الأفراد، أو حتى الحكام.. والحقيقة أن صياغة هذا الأصل فتحت الباب واسعا للتكفير، ولو أراد البنا حقا أن يقطع دابر هذه الآفة الخطيرة من جماعته لصاغ عباراته من خمس كلمات لا يزيد عليها كلمة واحدة (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين).
لكن البنا بعد هذه العبارة قال (وعمل بمقتضاهما)، مما يفتح الباب واسعا للإخوان ليحكموا بكفر كل من يرونه لا يعمل بمقتضى الشهادتين، فالحاكم الذي لا يطبق الشريعة كما يفهمها الإخوان لم يعمل بمقتضى الشهادتين، والسياسي الذي يختار فكرا غير فكر الإخوان هو بالطبع معطل لمعنى لا إله إلا الله كما شرحها سيد قطب، فكل الأفكار الليبرالية أو اليسارية أو القومية أو الوطنية بنظر الإخوان أفكارا جاهلية، لا يعمل صاحبها بمقتضى كلمة التوحيد.
والبنا يقول إن الإخوان لا يكفرون أحدا برأي أو معصية، لكن الرصد الطويل لخطاب الإخوان وخطبهم ودروسهم وكتاباتهم تبين أنهم كثيرا ما كفروا كتابا أو مفكرين أو أدباء بسبب آرائهم.. فإذا كانت العلمانية بنظر الإخوان كفرا، فإن الداعي إليها كافر، ومن له وجهة نظر في الحجاب مثلا، هو برأي مشايخ الجماعة كافر، باعتباره معاندا لما يراه الإخوان نصوصا صريحة.
ثم يفتح البنا الباب على مصراعيه بتكفير من أنكر “معلوما من الدين بالضرورة”، بالرغم من إن هذا المعلوم ظل يتسع كل يوم ويتشعب، من خلال فتاوى تميل إلى الغلو، وتجنح إلى تخويف الناس من مسائل فرعية باسم الأخذ بالأحوط أو سد الذرائع.. فالإخوان مثلا يرون أن من ينكر أن الإسلام جاء بنظام اقتصادي هو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة، وأن من يرى أن بعض النصوص كان لها سياق تاريخي، ولا ينسحب أثرها على واقع الناس اليوم هو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة.. وهكذا تتسع دائرة التكفير عند الإخوان، بطريقة مطاطة وفضفاضة، تجعل الكلمة الأخيرة في الحكم بكفر أحد أو إيمانه قرارا لقادة الجماعة.
والإخوان في خصومتهم السياسية، لا يكتفون أبدا بأسباب السياسة والواقع، حيث تكون دائما حجتهم واهية، ومنطقهم متهاو، بل يصرون على وصم الخصم بأنه معاد للدين، محارب للإسلام، مضطهد للدعوة والدعاة.
وفي أسر ولقاءات الإخوان التنظيمية، كثيرا ما كرر قادة الجماعة أن جمال عبد الناصر أمه يهودية، واحتفى الإخوان بكاتب زعم أن عبد الناصر حينما زار مكة معتمرا طاف حول الكعبة ثلاثة أشواط ثم توقف قائلا: ما هذا الهراء؟ أنطوف حول حجر؟، وزعم حامد أبو النصر مرشد الإخوان الأسبق أن ناصر في أحد اللقاءات عام 1954 صلى بلا وضوء..
وقد رأى قادة الجماعة أن هذه الحكايات تأتي بنتائج محببة من تأثر الأفراد والتفافهم حول التنظيم، وشعورهم أن ما يصيب الجماعة من أذى لا سبب له إلا تمسكهم برفع راية الدين والمناداة بالاحتكام إلى الشريعة.
ويتهم الإخوان من يخرج من تنظيمهم بأنه من المتساقطين على طريق الدعوة، وبأن الله كره بقاءه في “صفهم المبارك”، وأنه يصدق فيه قوله تعالى “لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا”.. وبأن الدعوة تنفي خبثها.
وبالرغم من كل هذه المواقف النظرية، والممارسات العملية، فإن الإخوان كانوا ومازالوا ينفون عن أنفسهم جريمة التكفير، وكلما اتهمهم أحد بها ردوا عليه بالكلمات الأولى لهذا الأصل من أصول البنا العشرين: لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين.