تنبني الثقافة على رؤية كونية تحدد علاقة الأفراد داخل مجتمع ما ببعضهم البعض وبالطبيعة والكون من حولهم وتنطوي على حزمة من القيم توجه مسار هذا المجتمع.
وفي كتابه The Patterning Instinct: A Cultural History of Humanity’s Search for Meaning (الغريزة التنميطية: تاريخ ثقافي لبحث الإنسانية عن المعنى) (2017)، يؤكد جيريمي لينت مؤسس معهد Liology Institute – وهو مؤسسة غير ربحية تهدف إلى تعزيز رؤية كونية تُمَكن البشرية من تحقيق تنمية مستدامة – أن هذه القيم هي التي شكلت التاريخ، ومن ثم فهي قادرة على تشكيل المستقبل.
في المراحل الأولى من تاريخ الإنسانية، فهمت القبائل التي كانت تعيش على الصيد الطبيعة باعتبارها ’الأب المانح‘، ونظروا إلى أنفسهم باعتبارهم جزءا من عائلة كبيرة ممتدة، ترتبط ارتباطا وثيقا بروح العالم من حولها.
ومع بزوغ فجر الحقبة الزراعية، قبل نحو 12 ألف عام من الزمان، ظهرت قيم جديدة، مثل الملكية والطبقية والثروة، قادت الحضارات الأولى إلى رؤية كونية تنظر إلى الكون باعتباره خاضغا لمصفوفة إلهية يتعين استرضاؤها من خلال أداء العبادات وممارسة الطقوس وتقديم القرابين.
ومع سطوع شمس الحضارة الإغريقية ، برزت رؤية كونية جديدة تشطر الكون إلى مجالين، أولهما مجال سماوي يقوم على التجريد الأبدي، وثانيهما مجال دنيوي مادي يعتوره النقص والفناء. ويسير في خط متواز مع هذه الرؤية الثنائية للكون، رؤية ثنائية للإنسان باعتباره روحا أبدية تستوطن – بصورة مؤقتة – جسدا ماديا محكوما عليه بالموت والفناء.
وتستمد المسيحية، باعتبارها أول رؤية كونية ثنائية ممنهجة، حسب الكتاب، رؤيتها الفلسفية للإنسان والكون من النموذج الحضاري الإغريقي؛ حيث تضع مصدر المعنى في ’إله‘ أبدي في السماء، بينما يصبح العالم المادي مجرد مسرح غير مقدس تجري عليه أحداث الدراما الإنسانية.
مهدت هذه الرؤية المسيحية للكون عبر مئات السنين الطريق أمام بزوغ رؤية كونية حديثة، على خلفية الثورة العلمية التي اجتاحت أوربا في القرن السابع عشر، قدست العقل حد التأليه. ومثلت هذه العقلانية، التي تضرب بجذورها في أطناب الحضارة الإغريقية، مصدر إلهام لحركة الاكتشافات العلمية التي قادها عدد من الرواد، مثل جاليليو وكبلر ونيوتن.
لكن هذه الرؤية الكونية، التي ألهمت هذا التقدم المعرفي المذهل، كانت تنطوي في الوقت ذاته على جوانب مظلمة، عبرت عن نفسها في تعبيرات مجازية من قبيل “الطبيعة الآلة” و”غزو الطبيعة”، وغيرها؛ وتشكلت على أساسها الأنساق القيمية والأنماط السلوكية للعصر الحديث. كما انبثقت عن مقتضيات الرؤية الكونية الثنائية – الموروثة عن الحضارة الإغريقية – الفلسفات المادية، التي قبل العقل الغربي بمعظمها بصورة مطلقة، رغم أنها تقوم بالأساس على فرضيات معيبة.
وقد جذرت هذه الفلسفات في العقل الغربي أن الإنسان أنوي بطبعه وبحكم تكوينه الجيني، وأن المجتمع الذي يعمل بكفاءة هو ذلك المجتمع الذي يسعى جميع أفراده إلى تحقيق مصالحهم الذاتية الخاصة. وبناء على هذه المسلمات قبِل الإنسان بالحلول التكنوقراطية للمشكلات التي تحتاج إلى حلول أكثر منهجية وتكاملية على أساس أن الطبيعة آلة شديدة التعقيد تنفصل عنه انفصالا تاما.
اعتبرت هذه الرؤية المادية للإنسان وللعلاقة بينه وبين الكون، النمو المطرد في الناتج المحلي الإجمالي أساس النجاح الاقتصادي والسياسي، رغم أنه لا يقيس، في واقع الأمر، سوى معدل تحول الطبيعة والأنشطة البشرية إلى اقتصاد نقدي، بغض النظر عن مدى فائدة أو ضرر هذا التحول. كما تستند الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم إلى اعتقاد راسخ بأن الاقتصاد العالمي سيواصل النمو بلا حدود على أساس أن التكنولوجيا الحديثة ستضطلع دائما بتوفير حلول جديدة، برغم استحالة ذلك على كوكب محدود الموارد.
وتكمن العيوب الجوهرية في منظومة ’التشغيل‘ العالمية بالأساس في هذا الإحساس بـ”الفصام النكد”؛ إذ يتم النظر إلى عقولنا وأجسادنا، وأفكارنا ومشاعرنا باعتبارها أجزاء منفصلة بدواخلنا، وإلى الأفراد باعتبارهم أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وإلى البشرية بوجه عام على أنها حلقة منفصلة عن الطبيعة. على المستوى الأعمق، فإن هذا الشعور بالانفصال هو المسئول عن قيادة الحضارة الإنسانية نحو كارثة محتملة.
رغم ذلك، فإن الغريزة التنميطية التي وضعت البشرية على شفا هذه الكارثة لا تزال قادرة على إعادة توجيهها، ووضعها على طريق تنمية مستدامة حقيقية. وعودا إلى كتاب جيريمي لينت فإننا نمتلك القدرة على بناء رؤية كونية مغايرة تقوم على الترابطية المتناغمة داخل شبكة الحياة، وهو ذات الشعور الذي تشاركته الثقافات المحلية في جميع أنحاء العالم منذ فجر التاريخ البشري.
وإذا كانت هذه الفكرة تتعرض لاستهجان المفكرين التقدميين، إلا أن الاكتشافات العلمية الحديثة تؤكد الترابطية الكامنة بين جميع الكائنات الحية. فنظرية التعقيد وبيولوجيا الأنظمة تبينان أن الترابط بين الأشياء غالبا ما يكون أهم من الأشياء ذاتها. بل إن الحياة نفسها أصبحت تُفهم الآن على أنها مركب كلي، ذاتي التنظيم وذاتي التجدد، يمتد كمتوالية حسابية من خلية أحادية إلى منظومة حياتية متكاملة تسري على سطح هذا الكوكب.
بالطريقة ذاتها يمكن فهم البشر على نحو أفضل من خلال دوافع التعاون والهوية الجماعية وتقديس العدل، بدلا من دوافع المصلحة المادية والتسلط الأنوي. فعلى النقيض من حيوانات الشمبانزي، التي تسيطر عليها فكرة التنافسية، يؤكد لينت أن علم الأحياء التطوري قد أثبت أن البشر قد تطورا ليصبحوا الأكثر تعاونا بين الرئيسيات، وأنهم يعملون على نحو تضامني في مهام بالغة التعقيد؛ مما يؤدى إلى خلق مجتمعات تتشارك القيم والممارسات التي تمثل الأساس الذي تقوم عليه الثقافات والحضارات.
وبحسب علم النفس التطوري، فإن إحساسنا الفطري بالعدل هو الذي أدى إلى النجاح التطوري للنوع البشري، وخلق الأساس الإدراكي والمعرفي لحزمة القيم الأساسية التي يقوم عليها العالم الحديث، مثل الحرية والمساواة والحكم النيابي.
وكما شكلت قيم الأجيال الغابرة التاريخ، فإن القيم التي نختار اليوم على نحو جماعي أن نحيا عليها ونستمسك بها ستشكل المستقبل. إن الأنماط الإدراكية والمعرفية التي تجذرت بدواخلنا عن طريق الثقافة السائدة هي نتاج رؤية كونية محددة، تشكلت في زمن ومكان محددين في فضاء التارريخ البشري. لكن هذه الرؤية الكونية قد تخطاها الزمن، وغدت عبئا ثقيلا على الحضارة البشرية ربما يقود نحو الهاوية.
وبدلا من محاولة تجاوز أنفسنا، فإن مهمتنا الأسمى اليوم تتمثل في تجاوز هذه الرؤية، وسبر أغوار أنفسنا، واختبار دوافعنا الحقيقية ككائنات تتعايش وتتفاعل داخل منظومة كونية حياتية متكاملة ومتناغمة.