منوعات

زكي مبارك.. ثورة أديب

كانت روحه التواقة للمجد تلقيه دوما في ساحات المعارك حتى وإن لم يملك من أسلحتها غير ذهنه المتقد وروحه الناقدة، فلم تفارق المطرقة يده يوما، ليشهرها في وجه أبرز أدباء ومفكري عصره: طه حسين، أحمد أمين، العقاد، أحمد لطفي السيد، أحمد زكي باشا، المازني، الرافعي، سلامة موسى..

أبغض هدوء الموادعة وإيثار السلامة، وأحب ضجيج التحدي ومطاولة الكبار، فأكسبته معاركه الكثيرة أعداء كُثر، لكنه لم يتراجع أو يتوقف عن الطرق بمطرقته على رأي خالفه أو أديب خاصمه.

الشيخ سيد المرصفي

في الأزهر حيث تلقى تعليمه لزم الشيخ المهدي أربع سنوات، فالشيخ سيد المرصفي سبع سنوات، واصطفاه الثاني ليقدمه بين تلامذته، بعد أن عاين نبوغه، وروي عن الشيخ الأزهري: إني لأخشى أن يضيع منا زكي مبارك كما ضاع طه حسين.

لم يتباطأ مبارك بالفعل عن السير على درب طه حسين، فالتحق بالجامعة المصرية عام ١٩١٦، ليتتلمذ على يد “العميد”، وساقه طبعه إلى أن يناطح أستاذه، وفي إحدى المحاضرات، قال لطه حسين: لا تتعالموا علينا ففى وسعنا أن نساجلكم بالحجج والبراهين، وكان نتيجة هذه المناطحة أن أسقطه العميد مرتين بامتحان الليسانس، ليتأخر حصوله على أولى شهاداته بالجامعة المصرية إلى عام 1921.

وأثناء دراسته الجامعية قامت ثورة ١٩١٩ فعرف فيها خطيبا مفوها تثير كلماته الحماسة في النفوس، ولا غرابة، فهي ميدانه الذي تتوهج فيها نفس كنفسه، وكان طبيعي أن تطلبه سلطات الاحتلال الإنجليزي فطاردته أشهرا، ثم اعتقلته كأسير حرب ٩ أشهر، خرج بعدها إلى الدرس والبحث، بجانب الكتابة الصحفية، ليتولى رئاسة جريدة الحزب الوطني “الأفكار” عام ١٩٢١، إلى أن تقدم للحصول على درجة الدكتوراه في موضوع “الأخلاق عند الغزالي” عام 1924، ولم يسلم حجة الإسلام من مطرقته، ليغيظ كثيرين، ومنهم ممتحنوه، فمنحوه الدرجة العلمية بتقدير جيد جدا.

عميد الأدب العربي طه حسين

عُين زكي مبارك بعدها في الجامعة بعقد مؤقت، وفي هذه الفترة نشط في تتبع الحركة الأدبية بالنقد والتقويم، ونشر المقالات بانتظام في جريدة البلاغ، ثم تطلعت بعدها نفس أديبنا التي لا تهدأ إلى الحصول على الدكتوراه من السوربون، كما أستاذه اللدود طه حسين، فالتحق بالجامعة الفرنسية عام ١٩٢٧ على نفقته الخاصة، إثر فشل مسعاه في الحصول على منحة دراسية، فكان يضطر إلى قضاء الصيف بباريس ويعود إلى القاهرة في الشتاء فيوزع وقته بين التدريس والصحافة ليجمع من المال ما يعينه على استكمال دراسته، وفي العامين الأخيرين قرر أن يقيم إقامة دائمة في فرنسا حتى يتم بحثه على الوجه الأكمل معتمدا على راتب جريدة البلاغ المتواضع بعد أن عينته مراسلا لها بباريس.

 وفي سنة ١٩٣١ يتقدم زكي مبارك للامتحان، فيواجه ممتحنيه قائلا: لقد جئت لكم لأصحح أخطاءكم ومفاهيمكم فأرجو أن تعترفوا بالخطأ وأن تمنحونى الدكتوراه.. لم يعترف الأساتذة بخطئهم، كما طالبهم مبارك، لكنهم منحوه درجة الدكتوراه عن رسالته: النثر الفني في القرن الرابع الهجري.

النقراشي باشا (1888 ـ 1948)

عاد زكي مبارك إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراه من السوربون عازما على ترويع “بعض الآمنين من رجال الأزهر والجامعة المصرية ووزارة المعارف، إذ كان يرى أن “في تلك الديار ناس يأكلون العيش باسم العلم والأدب، ثم لا يقدمون ولا يؤخرون في دنيا أو دين”، ليخوض “الملاكم الأدبي” أشهر معاركه الأدبية، بدأها مع طه حسين عندما وصف رسالته: النثر الفني بأنها “كتاب من الكتب لكاتب من الكُتاب”، ثم توالت المعارك مع كبار أدباء عصره.

 استقلاله وحدة طبعه وعنف قلمه جر عليه خصومات ألزمته عسر الحياة، فأنهى السنهوري بتحريض من النقراشي عمله في وزارة المعارف، ورفض طه حسين تجديد عقده للجامعة، ما دعا أديبنا إلى قولته المشهورة: لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه، وفي هذه الأثناء أعد رسالته الثالثة للدكتوراه عن التصوف الإسلامي، لينالها مع مرتبة الشرف عام 1937، ويسافر بعدها إلى العراق، منتدبا إلى دار المعلمين في بغداد عام 1938 فيقضى بها أخصب فترات حياته، وينتج عددا من أهم كتبه، مثل: ليلى المريضة في العراق، وعبقرية الشريف الرضي، ووحي بغداد.

 عودة زكي مبارك إلى مصر بعد انتهاء العام، مدة الانتداب بالعراق، لم تحمل له أي تغيير في قدره ليحتفظ بتبرمه منه، فاستمر مفتشا بوزارة المعارف، وهو “الدكاترة” زكي مبارك صاحب الأربعين مؤلفا، مع هذا ظل مخلصا لمذهبه، مؤمنا كما كتب مرة أن “الله لم يخلقني لأكون ألعوبة، أداري هذا وأجامل ذاك، أنا خير منكم جميعا، أنا في نعمة من الله، لا أبالي أين يكون سخطكم وأين يكون رضاكم، وإن الله لأكرم من أن يضطرني إلى مصانعة جماعة من الكسالى، لا قيمة لهم في هذا الوجود…، كلا: لن يكون هذا، إنكم تنافقون لتعيشوا، أما أنا فحي بالرغم منكم”..

ويطلق الرجل في آخر عمره صيحة يائسة وحزينة: متى أشهد مصرعك يا عصر النفاق؟! قبل أن يرحل عن دنيانا في ٢٣ يناير ١٩٥٢، ولا يزال النفاق مقيما هانئ البال لم ينته عصره، ولم يعد يقلقل سعيه بين الناس مطرقة تلوح في يد مفكر وأديب كزكي مبارك.

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock