ثقافة

مذكرات الإمام .. صفحات من مسيرة التنوير 2

لم يكشف لنا الإمام محمد عبده في مذكراته، عن إصرار والده على تعليمه، وهو الأب الذي كان يعشق الصيد ويحترفه، وينزع إلى الفتوة حتى تورثه شيئًا من القسوة، نفر منها الابن ونزعها من روحه مبكرًا.

كم انحدر من نسل الفلاحين والعمال، علماء ومفكرين ومثقفين، صنعوا تاريخ أممهم أو حولوا مجراه.. ربما أدرك هؤلاء قيمة المعرفة التي حرموا لم ينالوا منها نصيبًا، فحلموا بأن تكون من نصيب أبنائهم.

يقول محمد عبده: تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ القرآن.. وقرأت عليه جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه في مدة سنتين، أدركني في ثانيهما صبيان أهل القرية.. جاءا من مكتب آخر ليقرئا القرآن عند هذا الحافظ، ظنا منهما أن نجاحي في حفظ القرآن كان أثر اهتمام الحافظ.

أرسل الوالد ابنه محمد إلى مدينة طنطا، حيث يعيش أخيه لأمه الشيخ مجاهد الذي كان يجود القرآن في المسجد الأحمدي، وكان ذلك في سنة 1279هـ… لكنه لم يرق له ذلك، ورأى أنه لا يصلح لطلب العلم.. لم يكن يفهم ما يلقن من متون فأبى على نفسه وعقله أن يخدعاه، ورأى أن الفلاحة أكثر جدوى وفاعليه له من ذلك.

يتحدث عن هذه المرحلة قائلًا «في سنة مائتين وإحدى وثمانين الهجرية، جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي بطنطا، وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر أخي علي فأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق علي ألا أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي: وانتهى الجدال بتغلبي عليه، فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282ه، على هذه النية».

المسجد الأحمدي بطنطا

كاشف الفتى نفسه.. إن الفهم مقدم على الحفظ والتقليد.. نمت هذه القيمة في عقله فباتت قضيته الكبرى “الفهم والتفكير والابداع”.

أدرك منذ البواكير أن التعليم هو الفاعل الأول لرفعة الأمم، وإذا أصاب العطب مناهجه فإن قطار التقدم لن يبرح مكانه أبدًا.

يقول «فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر.. وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم… سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئا.. فيستمروا على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلي بهم الناس وتصاب بهم العامة، فتعظم به الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤدون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين نفع الناس بعمله».

هرب الفتى وعاد راجعا إلى قريته… تزوج صغيرا وبدأ في الاستعداد لممارسة حياته المفترضة “ملاحظ زراعة” إلا أن هناك من كان يصر على استكماله تعليمه، وكأنه كان يرى فيه شيئا يجب أن يكتمل ويثمر.. إنه والده عبده خير الله.

يكمل الإمام حكايته: «بعد أن تزوجت بأربعين يومًا، جاءني والدي صحوة نهار، وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم.. وبعد احتجاج وتمنع وإباء، لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، ووجدت فرسًا أحضره فركبته، واصطحبني والدي بأحد أقاربي، وكان قوي البنية شديد البأس، ليشيعني إلى محطة إيتاي البارود  التي أركب منها قطار السكة الحديدة إلى طنطا».. عندما تنتصر إرادة الأب الإيجابية، على تمرد المراهق الذي يظن أن من حقه أن يسلك مساره الذي يرى، فتثبت له الأيام استشراف أبيه وحكمته وصوابية قراره.

كان من الممكن إذا انصاع الشاب إلى قرار أبيه أن ينجح في خط مسار خطه من قبل أقران له في هذا الزمان، إلا أن هناك أشياء طارئة وبسيطة ساقتها الأقدار، حولت الكاره إلى محب، والمحب إلى مجتهد ثم إلى عالم وإمام.

في الطريق إلى طنطا غير الشاب المتمرد خط سيرة، بعد أن شعر بأنه في حاجة إلى الراحة وإلى مظلة تحميه من شعاع الشمس الحارقة: «كان اليوم شديد الحر، والريح عاصفة ملتهبة، تحصب الوجه بشبه الرمضاء.. فلم أستطع الاستمرار في السير، فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا طاقة لي بها مع هذه الحرارة، ولابد من التعريج على قرية أنتظر فيها حتى يخف الحر.. فأبى علي ذلك فتركته، وأجريت الفرس هاربًا من مشادته، وقلت إني ذاهب إلى (كنيسة أورين) بلدة غالب سكانها من خئولة أبي، وقد فرح بي شبان القرية، لأنني كنت معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح، وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل منا بصاحبه.. أدركني صاحبي وبقى معي إلى العصر، وأرادني على السفر، فقلت له خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد وإن شئت قلت لوالدي إنني سافرت إلى طنطا… فانصرف وأخبر ما أخبر، وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يوما تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي».

الإمام في شبابه

التقى محمد عبده بالشيخ درويش، أحد أخوال أبيه، الذي اشتبك برفق مع قلبه، فلجم عقله الجامح، وهو الصوفي ابن الطريقة الشاذلية.

فلنرجع حتى يكمل الإمام روايته: «جاءني هذا الشيخ صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة، وبيده كتاب يحتوي على رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئا لضعف بصره.. فدفعت طلبه بشدة ولعنت القراءة من يشتغل بها، ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بيدي رميته إلى بعيد، لكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب، وقرأت بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي، وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية، فرميت الكتب وانصرفت إليهم».

بدا كأنه يهرول من مصيره المقدر، وأن هناك من يطارده للإمساك بتلابيبه والدفع به إلى إليه.. وكأن الشيخ درويش كان يرى من وراء ستار ما سيكون عليه هذا الفتى الجامح.

يستطرد الإمام: بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه، وألح علي في قراءة شيء منه، فقرأت ثم تركته إلى اللعب وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول، أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه، وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أمل فيها، فقال لي إنه في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل فيها، فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرؤه، وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر، وعصيت في ذلك اليوم على كل رغبة في اللعب، وكان هوى ينازعني إلى البطالة.. وعصر ذلك اليوم سألته عما لما أفهمه، فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تحدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم».. شعر الشيخ درويش بأنه قد نجح.

عند هذه اللحظة انقلبت حياة محمد عبده، عندما بدأ في فهم المعارف الصوفية، وكثير من كلامهم من آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا «وفق تعبيره».

يصف الإمام ما حل به بدقة، وكيف تحول من حب اللعب واللهو إلى كراهيته، ومن كراهية المطالعة تحصيل العلوم إلى الشغف بهما: «لم يأت على اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلى ما كنت أحبه من للعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وكرهت صور أولئك الشبان، الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عشرة الشيخ رحمه الله، فكنت لا أحتمل أن أرى واحدا منهم، بل أفر من لقائهم جميعًا كما يفر السليم من الجرب».

شعر عندها بأنه يجب عليه سؤال شيخه أي طريقة يسلك، ربما حتى يتبعها إلا الشيخ درويش أجابه قائلا: طريقتنا الإسلام فقال: أليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ أجاب: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب.

يتداخل الشيخ بالتعليق على المحاورة السابقة قائلا: هذه الكلمات كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم.. متاع تلك الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهية.

مسلسل إذاعي من إنتاج إذاعة “البرنامج العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock