لم يكن اللاعب المصري محمد صلاح نجم ليفربول الإنجليزي هو أول من تغنت باسمه الجماهير الإنجليزية ودبجت في مدحه القصائد.. فقبل أكثر من قرن من الزمان كان هناك مصري آخر يضع بصمته على الكرة الإنجليزية ويبهر الجميع، وما يزال الأرشيف الرياضي الإنجليزي يحتفظ لنا بكل ما كتب عن هذا اللاعب الفذ في صحافة لندن من مقالات وقصائد تظهر إلى أي مدى كان تأثيره واسعا على الكرة الإنجليزية.
طالبا في كلية “ترني” ودارسا للهندسة في جامعة “كامبريدج” بلندن.. تطأ أقدام الفتى العشريني الأسمر أرض بلاد الإنجليز قادما من مصر، بعد أن رأت والدته أن الكرة ستضيع مستقبله العلمي؛ خاصة أنه لم يفلح في الحصول على شهادة “البكالوريا” لكنه في خريف عام 1911، كان بالفعل قد أصبح أحد أعضاء فريق “دولويتش هامليت” أحد أندية الهواة بجنوب لندن. في غضون ثلاثة أشهر كان حجازي ملء السمع والبصر بعد أن بهر الإنجليز بأهدافه التي أمطر بها شباك الخصوم، ليس هذا فحسب بل إن الصحافة الرياضية الإنجليزية تحدثت عن مواهب أخرى لابن النيل، منها سرعته الفائقة- كان بطلا لسباقات 400م و800م في مصر- وتسديداته الصاروخية ومراوغاته التي أحيانا ما تزيد عن الحد، والأهم من ذلك كله تطويره للأداء الهجومي بفتح الثغرات في دفاعات الخصوم، وصنع العديد من فرص التهديف للزملاء. ومن المدهش أن نرى الشعراء الرياضين في صحف جنوب لندن قد تباروا في التغني بمواهب حجازي* ذلك الجني واسع الحيلة ذي الخيال الخصب الذي لا يمت بصلة لتلك الجزر البريطانية الباردة.. الآتي بإلهام الشرق الساحر المفعم بالأساطير.
حجازي ابن الطبقة الأرستقراطية الذي كاد تدليل والده أن يفسده حصل وهو ما دون العاشرة على كرة قدم من النوع الفاخر كهدية.. كان الصبي يحمل كرته أينما ذهب في قريته التابعة لمحافظة الشرقية.. وكانت جرار الماء التي تحملها فتيات القرية هدفا لتصويباته المتقنة، كانت الأم بعد ذلك تتولى عملية الترضية ودفع ثمن الجرار المحطمة.
تنتقل أسرة حجازي إلى حي الحسين بالقاهرة ويلتحق الفتى بمدرسة الناصرية الابتدائية لتكتشف موهبته الفذة بالمصادفة.. بعد أن تلفت كرة المدرسة الوحيدة أثناء تدريب فريق المدرسة؛ فيستدعى حسين ليحضر كرته.. ولكنه يفاجئ الجميع بمهارة استثنائية، على عكس ما خبرناه في سني الطفولة البائسة عندما كان صاحب الكرة يتحكم في كل شيء رغم ضعف مستواه الفني غالبا.
من الناصرية الابتدائية إلى السعيدية الثانوية ينتقل الفتى، وطوال أربعة أعوام قضاها هناك لم تخسر المدرسة مباراة واحدة، واحتفظت بكأس البطولة طوال تلك الفترة، وتتخذ الأم قرارات هامة بشأن حسين، إذ قامت بتزويجه وهو في الثامنة عشرة، ثم أرسلته إلى إنجلترا ليتم تعليمه، ولتبعده عن معشوقته، وما درت الأم الطيبة أنها أرسلته لعقر دارها.
مع فريق دولويتش هامليت ويظهر حجازي الثالث وقوفا من اليسار
في “دولويتش هامليت” خاض حجازي مباريات ضمن بطولة “تشامبيون هيل” واستطاع اجتذاب الأنظار منذ مباراته الأولي ضد المنافس التقليدي لـ “هامليت” نادي “ويست نورود” استطاع حجازي إحراز هدف بعد أن مر كالبرق وسدد كرة خرجت كرصاصة استقرت في وسط المرمى.. هكذا وصفته الصحف في اليوم التالي للمباراة، أما الجماهير فقد اختارت له اسم “نبوخذ نصّر” الملك البابلي العظيم.
أحرز الفتى المصري أهدافا رائعة مع “دولويتش” بلغت سبعة وخمسين هدفا، وقد نُعت مرارا في الصحف بأنه صاحب فكر كروي راق يستطيع به إمداد جناحي الفريق بالكرات من أجل إرسالها داخل الصندوق حيث يكون متواجدا للانقضاض كـ “كوبرا” لا ترحم. وعن مراوغاته المثيرة يقول أحد الصحفيين أن حجازي كان يصيب المدافعين بالدوار، ويضطرهم أحيانا للتشبث بالعشب، بينما كان يبقي البعض ثابتا دون حراك.
مع فريقه “هامليت” في هولندا في عيد الفصح 1912، بعد فوز الفريق على أياكس أمستردام
من الأمور الطريفة التي اشتهر بها حجازي أنه لم يألف ارتداء أحذية الكرة الإنجليزية الثقيلة.. فاخترع لنفسه حذاء من جلد الغزال له نعل “كريب” أسمى الإنجليز هذا الحذاء لاحقا حذاء الصحراء.. لكن حجازي عاد لارتداء الأحذية الإنجليزية في مناسبات أخرى.
في نوفمبرعام1911، طلب نادي “فولهام” – الذي كان مملوكا للملياردير المصري محمد الفايد إلى وقت قريب – من حجازي الانضمام إلى صفوفه، وكان “فولهام” يلعب كناد للمحترفين بالدرجة الثانية.. وبالفعل لعب حجازي مباراة ودية مع الفريق ضد “ستوكبورتكاونتي”في ملعب”كرافنكوتاج” الذي امتلأ بالجماهير عن آخره، لم تمض سوى ربع ساعة قبل أن يهز حجازي الشباك بكرة ماكرة ويلهب حماس الجماهير. كان انتقال اللاعبين المتميزين من أندية الهواة إلى أندية المحترفين دون إذن أنديتهم قد أثار لغطا في الوسط الرياضي الإنجليزي، وكان انتقال حجازي لـ”فولهام” الحدث الذي فجر القضية على أوسع نطاق، ما اضطر حجازي للعودة لـ “هامليت” وعدم إكمال مشواره في دوري المحترفين، وعندما خيره مسؤولو النادي بين البقاء والرحيل اختار البقاء اعترافا بفضل النادي عليه.. تناقلت الصحافة الخبر، وعلق أحدهم” ربما لم تشهد الملاعب الإنجليزية من هو أكثر احتراما لشرف الكلمة من هذا الفتى المصري”.
مع فريق ميلوو لعام 1912، ويظهر حجازي في الخلف مرتديا القبعة
وعلى مدى ثلاث سنوات كاملة وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، خاض حجازي عددا كبيرا من المباريات مع فريقه ومع منتخب لندن، ومع فريق جامعة كامبريدج، وفريق ميلوول؛ حتى صار معشوقا للجماهير الإنجليزية التي اعتبرت أداءه بمثابة التحول الكبير في طرق الهجوم المتبعة لدى الفرق الإنجليزية، التي كانت تتبع طرقا تقليدية تطبقها دون إبداع، بينما كان حجازي يدور كالنحلة ويراوغ كالثعلب، ويرسل التسديدات كقذائف المدفعية، ويفتح الطريق لزملائه في دفاعات الخصوم بتمريرات سحرية؛ لكن هذه المتعة تنقضي سريعا لاضطرار حجازي للعودة إلى مصر بسبب الحرب.
لعب حجازي ضمن صفوف منتخب لندن، الذي كان في الحقيقة منتخب إنجلترا، مباراة في مدريد ضد المنتخب الإسباني، وبعد المباراة استدعى الملك الإسباني الذي كان يشاهد المباراة اللاعب المصري وسأله عن مسقط رأسه: فأجابه أنه من مصر، فقال له الملك: “لو تملك مصر لاعبين مثلك لتغلبتم على أي فريق في العالم”.
ويقرر حجازي فور عودته تشكيل فريق باسمه “حجازي11” ليقارع به الفرق الإنجليزية، وخاصة فريق “ستانلي تيم” ذائع الصيت آنذاك والذي كان مكونا من لاعبي الدوري الإنجليزي المجندين ضمن قوات الاحتلال البريطاني في مصر، ويفوز فريق “حجازي11” على “ستانلي تيم” في مباراتين متتاليتين، يرتفع فيهما الرهان من جانب الإنجليز من عشرة جنيهات في الأولي إلى مئة وثمانين جنيها في الثانية لكن النصر كان حليف المصريين.
رأى الكابتن حجازي في كرة القدم شكلا من أشكال المقاومة للمحتل، وطريقا إلى كسر أنفه وإذلاله، وإسعاد المصريين بالفوز الكروي الذي يحقق التفوق المصري، وإن كان في ساحات الرياضة، وليس في ميادين المعارك.
وينضم حجازي للنادي الأهلي لأربعة مواسم متتالية، ثم يغادره إلى نادي المختلط (الزمالك حاليا) لموسم واحد، ثم لنادي القاهرة لموسم واحد أيضا، وفي عام 1916 يكوّن حسين حجازي أول منتخب مصري، والذي سيكون جاهزا للمشاركة في دورة الألعاب الأوليمبية في “أنتويرب” ببلجيكا عام1920، ويصبح حجازي أول قائد للمنتخب الوطني، بعد ذلك بأربع سنوات، وسيعاود تمثيل مصر في أولمبياد باريس، وسيحرز هدفا في مرمى المجر يظل لمدة 88 عاما مسجلا باسمه كرقم قياسي لأكبر اللاعبين سنا تسجيلا للأهداف في المباريات الأوليمبية، وبلغ حجازي وقتها 37 عاما و225 يوما، ولم يستطع تحطيم هذا الرقم سوى اللاعب الويلزي “ريان جيجز” في أولمبياد 2012.
بعد عودته من بلجيكا، ينضم حجازي للمختلط مجددا ويستمر معه حتى عام 1923 ليفوز معه بالكأس السلطانية، وكأس فاروق، ودوري منطقة القاهرة، أكثر من مرة، ثم ينتقل إلى نادى السكة الحديد لموسم واحد فتنتقل معه البطولات، ثم يعود إلى النادي الأهلي حتى عام 1928 ليضيف إليه العديد من البطولات، ويعاوده الحنين إلى المختلط فيقضى به أربعة مواسم أخرى ويعتزل بين صفوفه عام 1932.
وقد ساهم حسين حجازي وهو لاعب في تأسيس اتحاد الكرة المصري، وكان عضوا بمجلس إدارته من عام 1921 إلى عام 1925، وكان معلوما لدى الكافة أنه ينفق من جيبه الخاص على الاتحاد وعلى الفريق الوطني واللاعبين، لدرجة أنه اضطر لبيع أرض كان يملكها من أجل ذلك.
وبعد الاعتزال عام 1932م عين الكابتن حجازي مستشارا لاتحاد كرة القدم، ثم مديرا لشؤون الرياضة في وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1956، لتستمر رحلة عطاء أبي الكرة المصرية إلى أن يتوفاه الله تعالى إلى رحمته في 8 أكتوبر عام 1961، عن عمر ناهز السبعين عاما، وتكريما له أطلقت محافظة القاهرة اسمه على الشارع الذى كان يقيم به بجانب وزارة التربية والتعليم بالقرب من شارع قصر العيني.