في نهاية تسعينيات القرن الماضي، سافرت الروائية الكندية، ديبورا أليس، إلى باكستان، حيث التقت عددا من اللاجئين الأفغان الفارين من جحيم الحرب، وأهوال الحكم الطالباني. وبعد عودتها، قدمت أليس سلسلة رائعة من قصص الأطفال بعنوان The Breadwinner (المعيلة) تحكي فيها مأساة المرأة الأفغانية في ظل الحكم الطالباني.
تنقل أنجيلينا جولي أحداث القصة إلى فضاء الرسوم المتحركة، حيث تنتج فيلما مستمدا من أحداث هذه السلسلة، ويحمل الاسم نفسه. ورغم أن عالم الرسوم المتحركة حافل بالأطفال الذين يقاسون ظروفا عصيبة، إلا أن بارفانا – فتاة كابول التي تبلغ من العمر 11 عاما – تمثل حالة خاصة تجعلها تتمايز في وجدان المشاهد من بين ركام الجموع البائسة.
ففي قصة تمتزج فيها الحياة بالرعب، تقفز الفتاة الأفغانية إلى العدم بعد أن زجت حكومة طالبان بأبيها في غياهب السجون، وتضطرها الظروف إلى التخفي في صورة ولد، واقتحام عالم العاصمة الأفغانية الخاضعة لحكم طالبان لتقتات لعائلتها.
في أول عمل لها كمخرج، لا تلوي نورا تومي على شيء في كشف التفاصيل المرعبة المتعلقة بحياة بارفانا (الممثلة سارة شودري)، والبيئة المحيطة بها، حتى في الوقت الذي تغلف فيه الصعوبات التي تواجه بطلتها بلمسة فنية ساحرة.
تتمسك تومي، مع كاتبة السيناريو، أنيتا دورون، بوجهة نظر الطفلة في جميع خيوط السرد، سواء ما يتعلق منها بالتحديات اليومية الدامية التي تواجهها بارفانا، أو بالقصص التي تنسجها من وحي خيالها الطفولي الخصيب لهدهدة أخيها الرضيع وتسليته.
تبدأ أحداث الفيلم في عام 2001، في الوقت الذي كانت فيه بافانا ترافق أباها، نور الله (الممثل علي بادشاه) بانتظام في رحلاته إلى سوق كابول المركزية ليبيع بعض البضائع لسد رمق أسرته الفقيرة. كمٌعلم سابق لمادة التاريخ، يعمد نور الله إلى تجذير الحس التاريخي في وجدان ابنته، خاصة فيما يتعلق بتاريخ أفغانستان، التي ذاقت مرارات العدوان وويلات الاحتلال على مدى قرون طويلة.
تشعر بارفانا بغصة عميقة، وتشخص أمام ناظريها جحافل الغزاة على مر الأزمان، بدأ من الأسكندر الأكبر، ومرورا بجنكيز خان، ووصولا إلى الجيوش السوفيتية. لكن التاريخ السياسي لأفغانستان يجثم على صدرها بقوة أيضا عندما يقوم من نصبوا أنفسهم حراسا للفضيلة باعتقال أبيها بتهمة التشكيك في عقائدهم المحافظة.
يتحول السكن الذي تعيش فيه بارفانا بصحبة أمها المكلومة، فاطمة (الممثلة لارا صادق)، والأخت الكبرى المثيرة للجدل، ثريا (شايستا لطفي)، والأخ الرضيع، زكي، إلى سجن أيضا. فتحت وطأة الحكم الطالباني، لا تستطيع النساء والفتيات الخروج إلا بصحبة محرم. إضافة إلى ذلك، فقد أمسك التجار وأصحاب الحوانيت، وحتى الباعة الجائلين عن البيع لبارفانا – فيما يشبه ضرب حصار اقتصادي على أسرتها – خوفا من الوقوع تحت طائلة الجزاء الطالباني.
لكن، بمجرد أن تخلصت بارفانا من هويتها النسائية، بأن قصرت شعرها، وارتدت ملابس أخيها الأكبر المتوفي، سليمان (نورين جولامجوس) – الذي تتكشف أحداث الفيلم عن قصته بأقل التفاصيل وأعمق التأثير – تخرج بارفانا من السجن إلى ما يشبه الحياة، وتتنسم رائحة الحرية، ولو من بعيد؛ فتجوب بحرية شوارع كابول وأسواقها، وتبيع فيها وتبتاع منها ما يلزم أسرتها من مؤن.
تجد بارفانا روحا طيبة وشريكا مخلصا في شخص شوزيا (سوما تشايا)، فتاة أخرى تتخفى في صورة فتى؛ حيث يعملان سويا في بيع الشاي، ويضطلعان بإنجاز ما يعرِض لهما من أعمال. وفي أثناء تخطيطها للهرب إلى الجانب الآخر الآمن من البحر، تشير شوزيا إلى حياتها المضطربة وإلى إحساسها بالاغتراب عن ذاتها وعن مجتمعها داخل الواطن. وتبدع كاتبة السيناريو ومخرجة الفيلم – كما أبدعتا في معالجة قصة سليمان – في بعث رسائل كثيرة وعميقة بأقل الكلمات.
وسط ركام هذه المعاناة، لا يخلو الفيلم من بعض لحظات البهجة والمرح، التي تظهر أكثر ما تظهر في تقمص بارفانا حب أبيها لرواية القصص المسلية، وتبث فيها روح الطفولة المتوثبة لتسري بها عن أخيها الرضيع.
ولضبط تكنيك القصة داخل القصة، بمنأى عن السمات البسيطة للسردية الرئيسية وتحولات الخلفية الطبيعية، تتبنى تومي أسلوب تقطيع متميز داخل الإطار الفني لأعمال الرسوم المتحركة. فحكاية الطفل الجسور في مواجهة ’الملك الفيل‘ الشرير تبطنها نغمات عميقة، ويتخللها حركات دائرية وأخرى سيمترية موحية.
بطلة هذه القصة الرمزية هي ولد، ولو في الظاهر، وهو ما يربط دور البطولة بجرأة بارفانا وشوزيا من ناحية، وبشخص سليمان (الغائب الحاضر) والطفل زكي، الذي يجسد المرح والبراءة، من ناحية أخرى. ويأتي إبراز الرواية لعناصر القوة والإبداع في عالم تحفه المخاطر وأشباح الدمار كطريقة لنسج خيوط الأمل فوق تلال الصعوبات والتحديات.
فبارفانا لا تمل من بذل المحاولات لزيارة أبيها السجين، ولو فقط من أجل إعطائه عصاه التي يتوكأ عليها بعد أن فقد إحدى ساقيه في زمن الحرب. ويثير ذلك تعاطف رزاق (كاوا أدا)، أحد زبائن أبيها. وتعتبر لحظات الصمت التي يظهر فيها رزاق مع بافانا أثناء عرض ما مُني به من خسائر من أكثر اللحظات المثيرة للمشاعر في الفيلم.
تتناثر تهديدات الحرب وذكرياتها المفجعة في جميع الأماكن التي يعرض لها الفيلم. فبعد أن عبرت بارفانا صحراء تملؤها دبابات قديمة من مخلفات الحرب، تظلم السماء، ويسد الأفق آلات تدمير جديدة. وعلى غرار بطلتها الشجاعة، تتحرك تومي عبر المشاهد المترعة بالمآسي بخفة بالغة. ربما لا يمكن إصلاح ما أفسدته الحروب ومزقه الاستبداد، ولكن في لحظة مذهلة يدوي الحب بصوت يفوق صوت القنابل.