هناك إجماع علي أن الدين أساس للمدني لدي المفكرين المسلمين، سواء أكانوا فلاسفة أو علماء للحكمة والنصح السياسي للملوك أو فقهاء أو رحالة مسافرين، لا نعرف واحدا منهم قال باستقلال المدني عن الديني أو أنه يعمل بعيدا عن الدين. صحيح أنهم قالوا إن المدني يمكن أن يستقل بذاته ليكون مصدرا للحكمة والتعلم والاستفادة من خبرات الآخرين، وهو هنا يضيف إلي الدين ولا يخصم منه، فمثلا في مروج الذهب للمسعودي نقل عن كسري أنوشروان ما يقوم به الملك والحكم والسياسة وأشار إلي حكماء اليونان وكتاب أفلاطون ” السياسة المدنية”، وهو هنا ينفتح علي ثقافات الآخرين ليستفيد من أفكار حكمائهم وعلمائهم ما لا يتعارض مع الدين لكنه ليس نصا نص عليه الدين، فالمدني هو سياسة المدينة وهو أمر يحتاج إلي توفيق مصالح أهلها المتعارضة ليتحقق التوافق والوئام بينهم ويقوم العدل والعمران بعيدا عن الظلم والجور، ومن ثم نحن أمام عمل اجتهادي أطلق عليه الفارابي “السياسة المدنية” التي هي أوسع من مجرد النص عليها في قوانين الدين وشرائعه.
وكما أشار بن عقيل ذات مرة “السياسة هي ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس أقرب إلي الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي”. فأمر السياسة المدنية وأمر معالجة أمور المدينة وأحوال سكانها يحتاج إلي تدبير قائم علي وضع نظم وقوانين لجعل حياة الناس أكثر سعادة ورفاهية بمعرفة كل منهم، ماله وما عليه، أي حقه وواجبه بالمعني المعاصر.
وذكر كثير من الفلاسفة والفقهاء المسلمين أن الإنسان مدني بطبعه ومعني ذلك أنه لا يمكنه العيش وحده، كما لا يمكنه وحده الاستقلال بحاجات نفسه، ومن ثم كان لابد له من العيش مع غيره ممن يحتاج إليهم ويحتاجون إليه حتي تستقيم حياتهم جميعا عبر تبادل المنافع والأفكار والمصالح في إطار قانون للعيش المشترك القائم علي العدل والخير والجمال والتسامح والمشاركة.
وبدا لي مثيرا أن يستخدم ابن سينا في كتابه المنطق ما أشار إليه من السياسة التغلبية وسياسة القلة وسياسة الكرامة وسياسة الحرية والديموقراطية، ويبدو أنه هنا متأثر بما في كتاب السياسة لأرسطو، كما يبدو لافتا جدا استخدامه لكلمة الديموقراطية التي من المؤكد أنه جاء بها عبر مطالعته لكتب حكماء اليونان القدامى.
وفي كتاب ابن الأزرق “بدائع السلك في طبائع الملك” أشار إلى أن الجور المرتب أبقي من العدل المهمل وأن السلطان الكافر الحافظ لشروط السياسة الاصطلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه المضيع للسياسة الشرعية، أي أن السياسة المدنية هي عمل عقلي من طراز راق وفريد يقوم علي وضع قواعد التدبير للخلق وسياسة الناس بما يحقق مصالحهم ومنافعهم وسعادتهم، وأنه يُنتفع فيها بخبرات وأفكار وتراجم الأمم السابقة في الحكم والسياسة ولا يُحجر على المجتهد في السياسة المدنية التي لأهميتها ألف الفيلسوف الفارابي كتابا باسمها، كما نظم بن المقري أرجوزة فيها أشار إليها في كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”. وفي السياسة المدنية أشار بعض الفلاسفة والكتاب إلى أن يتذئب الحاكم قبل أن تأكله الذئاب، وهو هنا قريب من الاتجاه الواقعي في المدارس السياسية الحديثة التي أرسي قواعدها ميكافيللي في كتابه “الأمير”، بمعنى أن الأخلاق لا تكون عائقا أمام العمل السياسي الذي يحقق مصالح الجماعة، وإنما يمكن أن يُترك دليل جزئي في سبيل تحقيق مصالح راجحة للجماعة والأمة.
ويشير صديق حسن خان في كتابه “أبجد العلوم” إلي علم الاحتساب، وهو النظر في أمور أهل المدينة بإجراء مراسم معتبرة في الرياسة الاصطلاحية ونهي ما يخالفها، أي أن هناك قوانين نامة يقوم الحاكم بسنها لضبط أمور المدينة في الزراعة والصناعة والمناجم والاحتكار ونظم الأسواق والتسعير ونظم العقاب والجريمة بمنطق القوانين المدنية وليس بمنطق الأحكام الفقهية في بطون كتب الفقهاء.
وإذا كانت تلك مسارات مفكري المسلمين في النظر إلي الدين والمدني باعتباره حوارا وتجسيرا وتمتينا للعلاقة بينهما، فلماذا ينقلب الحال اليوم ليصبح المدني والديني متخاصمان، فالليبرالي العلماني لا يريد للدين أن يكون أساسا وإطارا وسياقا عاما لمدنيته، ولا يريد الإسلامي الشرعي أن يفتح الباب للاجتهاد السياسي الواسع لتنظيم حياة الناس في عصر يختلف عن العصور السابقة ويظن أن السياسة وأحوال المدينة مذكورة بتفاصيلها كلها في النصوص والأحكام الشرعية المقدسة التي لا تتغير وتتعلق بالطبيعة الإنسانية ولا تتعلق بتطور المجتمعات وأحوال المدن والناس.
أساس النهوض العربي هو الاستمرار علي سيرة مفكرينا الأوائل الذين جعلوا من العلاقة بين المدني والديني علاقة حوار وتجسير وتجادل مستمر لتحقيق العدل والسعادة وإتاحة أفضل بيئة لبناء سلام داخلي بين الدين والدنيا وبين الإنسان والعصر وبين الشريعة والحياة.