فن

Sweet Country .. قراءة في تاريخ العنصرية

على غرار فيلم Samson and Delilah، الذي عرض في عام 2009، وقدم فيه المخرج وارويك ثورنتون صورة مفزعة لحالة الفقر والعبودية التي رزح تحت نيرها سكان أستراليا الأصليون، يواصل فيلم Sweet Country طرح هذا النوع من القضايا التي تتعلق بالتمييز العنصري وعدم المساواة ومفهوم العدالة في أستراليا في عشرينيات القرن الماضي. يحاول الفيلم أن يجد رابطا عضويا بين التاريخ المظلم لدولة قامت على العبودية والتمييز الإثني من جانب، والمشهد الاجتماعي والسياسي الآني من جانب آخر.

في هذا السياق، يمثل فيلم Sweet Country – الذي أثار جدلا مجتمعيا عميقا لدى عرضه قبل أشهر في الولايات المتحدة – إسهام وارويك ثورنتون الفني في الجدل الصاخب الذي عادة ما يقض مضاجع الأستراليين عشية احتفالاتهم بيومهم الوطني، ويثير القضية التي لا تلبث تطل برأسها في كل عام، حيث تصطدم النزعة الأخلاقية اليسارية مع شعبوية اليمين، ويصطدمان جميعا مع حالة من اللامبالاة وعدم الاكتراث الشعبي بالجدل السياسي حول قبول الآخر.

الفارق الجوهري بين واقع عشرينيات القرن الماضي، التي تدور فيها أحداث الفيلم وواقع المجتمع الأسترالي اليوم هو أن الرأي العام أصبح أكثر رفضا بصورة ملحوظة لكل مظاهر التفرقة العنصرية والتمييز الأثني.

 يعرض فيلم Sweet Country صورة تاريخية قاتمة للعلاقات بين الأعراق المختلفة في مدينة حدودية صغيرة في الإقليم الشمالي في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، حيث يسود نظام إقطاعي يستغل من خلاله المزارعون البيض “التافهون” العبيد السود، من قبيل أن القابعين في قاع السلم الاجتماعي عادة ما يبحثون عن آخرين أكثر دونية.

يقدم فريد سميث (الذي يجسد دوره الممثل سام نيل) الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة؛ إذ يتمسك، كمسيحي متدين، بقيم المساواة بين البشر على اختلاف ألوانهم، بينما يمثل جاره، ميك كينيدي (الممثل توماس رايت)، النموذج الأكثر شيوعا، الذي يؤمن بالتفوق الأبيض والدونية السوداء، بما في ذلك دونية الطفل فيلوماك، ابنه الهجين.

أما النموذج الأكثر تطرفا فيجسده الوافد الجديد، هاري مارش (إوين ليسلي)، مصاب الحرب العالمية الأولى الذي لا يزال يخوض معارك طاحنة لا تدور رحاها إلا بداخله.

يبدأ الفيلم بزيارة مارش لسميث لطلب استعارة ’عبده الأسود‘ لمساعدته في بناء منزله. ورغم تحفظ سميث على الخطاب العنصري لمارش، إلا أن أخلاقه كمسيحي متدين جعلته يطلب من ’مساعده‘، سام كيلي (هاميلتون موريس)، الذهاب مع ضيفه وتقديم العون اللازم له.

  يتعامل مارش مع سام، وزوجته ليزي (ناتاسيا جوري فيربر)، وابن أخيه على أنهم أنصاف بشر. ومن خلال هذه ’الرؤية الكونية‘ يستبيح لنفسه اغتصاب ليزي.

بعد عودة سام وزوجته إلى منزل سميث يهاجم مارش المنزل بحثا عن الطفل فيلوماك، وعندما يخبره سام أنه لا يعرف مكانه يطلق النار على المنزل من الخارج على نحو هستيري، مما يدفع بسام إلى قتله دفاعا عن حياته وحياة زوجته.

يطرح الجزء الثاني من الفيلم مفهوم العدالة، ويحاكم هذا المفهوم. فعلى إثر قتله لرجل أبيض، يفر سام وزوجته من حكم إعدام محقق، ويتعقبه الرقيب فليتشر (بريان براون) المختل نفسيا، الذي يدفعه هوسه المرضي بتحقيق العدالة ’العمياء‘ وتطبيق القانون ’العنصري‘ إلى الدخول في صراع مباشر مع غرائز إنسانية طبيعية، مثل الحفاظ على النفس واستبقاء الذات.

على الطرف الآخر، يسعى القاضي تايلور (مات داي) إلى إقامة نوع آخر من العدالة عن طريق التمسك بالمعايير الأخلاقية محل الاتفاق أمام حشد من السكان المحليين المخمورين والمتعطشين للدم.

المناخ العام للفيلم يجعله أقرب إلى وحشية أعمال التراجيديا اليونانية القديمة؛ فهو لا يحتوي على أي خلفية موسيقية، باستثناء واحدة تحمل مغزى تهكميا، وهي أغنية جوني كاش التي تصاحب ظهور أسماء طاقم العمل في نهاية الفيلم، كما أن المشهد العام يتسم بالوحشة والعدوانية.

ربما يشعر سام وأرشي (جيبسون جون)، الذي يعمل لدى كينيدي، بالانسجام مع هذه البيئة الموحشة؛ لكن هذه البيئة نفسها تمثل صراعا وجوديا دائما بالنسبة إلى المستوطنين البيض.

لا نصدق للحظة واحدة أن سام سيحصل على العدالة التي يستحقها، رغم وجود مبادرات وتحركات ’بيضاء‘ تحمل نزوعا إنسانيا من قبل بعض المستوطنين البيض، ليس فقط فريد سميث والقاضي تايلور، وإنما ينضم إليهم بعد ذلك كينيدي نفسه.

أما الشخصية التي تعاني صراعا داخليا محموما فهي شخصية الرقيب فليتشر، الذي يبدو أنه فقد صوابه جراء محاولاته اليائسة لإرساء السلام الاجتماعي في بيئة لا يسود فيها العدل. يمثل فليتشر روحا منهكة ومحطمة، ويعبر عن إحباطه في شكل نوبات هستيرية يختلط فيها جنون العظمة بالغضب والعنف.

ربما لا تتسم شخصيات الفيلم بالتوازن المثالي، لكنها – في الوقت نفسه – ليست شخصيات هزلية أو كاريكاتورية. إنها الحد الأدنى من طبيعة هذا الفيلم الذي يقوم على المصارحة الفجة والمكاشفة المؤلمة المتساوقة مع طبيعة المناطق النائية التي تخلق فينا مشاعر جوفاء.

لا شك أن احتلال البيض لهذه الأرض ينطوي على جور وشر، ويؤدي إلى شقاء وبؤس لا يعرف الألوان، ولا يفرق بين أبيض وأسود، لكنه في النهاية يبدو مثل الخطأ المأساوي الذي يرتكبه البطل التراجيدي في الأعمال الكلاسيكية، ويؤدي في النهاية إلى سقوطه.

ويبقى السؤال: هل لا زلنا نكرر الخطأ ذاته حتى اليوم؟

 

تريلر الفيلم على موقع يوتيوب

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock